معهد الخوئي | Al-Khoei Institute

معهد الخوئي | Al-Khoei Institute
  • الإمام الخوئي
  • المكتبة المرئية
  • المكتبة الصوتية
  • المكتبة
  • الاستفتاءات

5- النسخ في القرآن الكريم

  • ٣٢٣٦٢

النسخ في القرآن


 


* المعنى اللغوي والاصطلاحي للنسخ.
* إمكان النسخ. وقوعه في التوراة.
* وقوعه في الشريعة الإسلامية. أقسام النسخ الثلاثة.
* الآيات المدعى نسخها وإثبات أنها محكمة.
* آية المتعة ودلالتها على جواز نكاح المتعة.
* الرجم على المتعة.
* فتوى أبي حنيفة بسقوط حد الزنا بالمحارم إذا عقد عليها.
* فتواه بسقوط الحد إذا استأجر امرأة فزنى بها.
* نسبة هذه الفتوى إلى عمر.
* مزاعم حول المتعة.
* تعصب مكشوف حول ترك الصحابة العمل بآية النجوى.
* كلام الرازي والرد عليه.


ــ[275]ــ


في كتب التفسير وغيرها آيات كثيرة ادعي نسخها. وقد جمعها أبوبكر النحاس في كتابه "الناسخ والمنسوخ" فبلغت "138" آية.
وقد عقدنا هذا البحث لنستعرض جملة من تلك الآيات المدعى نسخها ولنتبين فيها أنه ليست - في واقع الأمر - واحدة منها منسوخة، فضلا عن جميعها.
وقد اقتصرنا على "36" آية منها، وهي التي استدعت المناقشة والتوضيح لجلاء الحق فيها، وأما سائر الآيات فالمسألة فيها أوضح من أن يستدل على عدم وجود نسخ فيها.
النسخ في اللغة:
هو الاستكتاب، كالاستنساخ والانتساخ، وبمعنى النقل والتحويل، ومنه تناسخ المواريث والدهور، وبمعنى الإزالة، ومنه نسخت الشمس الظل، وقد كثر استعماله في هذا المعنى في ألسنة الصحابة والتابعين فكانوا يطلقون على المخصص والمقيد لفظ الناسخ (1).
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) وقد اطلق النسخ كثيرا على التخصيص في التفسير المنسوب إلى ابن عباس.


ــ[276]ــ


النسخ في الاصطلاح:
هو رفع أمر ثابت في الشريعة المقدسة بارتفاع أمده وزمانه، سواء أكان ذلك الأمر المرتفع من الأحكام التكليفية أم الوضعية، وسواء أكان من المناصب الإلهية أم من غيرها من الأمور التي ترجع إلى الله تعالى بما أنه شارع، وهذا الأخير كما في نسخ القرآن من حيث التلاوة فقط، وإنما قيدنا الرفع بالأمر الثابت في الشريعة ليخرج به ارتفاع الحكم بسبب ارتفاع موضوعه خارجا، كارتفاع وجوب الصوم بانتهاء شهررمضان، و ارتفاع وجوب الصلاة بخروج وقتها، وارتفاع مالكية شخص لماله بسبب موته، فإن هذا النوع من ارتفاع الأحكام لا يسمى نسخا، ولا إشكال في إمكانه ووقوعه، ولا خلاف فيه من أحد.
ولتوضيح ذلك نقول: إن الحكم المجعول في الشريعة المقدسة له نحوان من الثبوت:
احدهما: ثبوت ذلك الحكم في عالم التشريع والإنشاء، والحكم في هذه المرحلة يكون مجعولا على نحو القضية الحقيقية، ولا فرق في ثبوتها بين وجود الموضوع في الخارج وعدمه، وإنما يكون قوام الحكم بفرض وجود الموضوع. فإذا قال الشارع: شرب الخمر حرام - مثلا - فليس معناه أن هنا خمرا في الخارج. وأن هذا الخمر محكوم بالحرمة، بل معناه أن الخمر متى ما فرض وجوده في الخارج فهو محكوم بالحرمة في الشريعة سواء أكان في الخارج خمر بالفعل أم لم يكن، ورفع هذا الحكم في هذه المرحلة لا يكون إلا بالنسخ.
وثانيهما: ثبوت ذلك الحكم في الخارج بمعنى أن الحكم يعود فعليا بسبب فعلية موضوعه خارجا، كما إذا تحقق وجود الخمر في الخارج، فإن الحرمة المجعولة في


ــ[277]ــ


الشريعة للخمر تكون ثابتة له بالفعل، وهذه الحرمة تستمر باستمرار موضوعها، فإذا انقلب خلا فلا ريب في ارتفاع تلك الحرمة الفعلية التي ثبتت له في حال خمريته، ولكن ارتفاع هذا الحكم ليس من النسخ في شيء، ولا كلام لأحد في جواز ذلك ولا في وقوعه، وإنما الكلام في القسم الأول، وهو رفع الحكم عن موضوعه في عالم التشريع والإنشاء.
امكان النسخ:
المعروف بين العقلاء من المسلمين وغيرهم هو جواز النسخ بالمعنى المتنازع فيه "رفع الحكم عن موضوعه في عالم التشريع والإنشاء" وخالف في ذلك اليهود والنصارى فادعوا استحالة النسخ، واستندوا في ذلك إلى شبهة هي أوهن من بيت العنكبوت.
وملخص هذه الشبهة:
إن النسخ يستلزم عدم حكمة الناسخ، أو جهله بوجه الحكمة، وكلا هذين اللازمين مستحيل في حقه تعالى، وذلك لأن تشريع الحكم من الحكيم المطلق لا بد وأن يكون على طبق مصلحة تقتضيه، لأن الحكم الجزافي ينافي حكمة جاعله، وعلى ذلك فرفع هذا الحكم الثابت لموضوعه إما أن يكون مع بقاء الحال على ما هو عليه من وجه المصلحة وعلم ناسخه بها، وهذا ينافي حكمة الجاعل مع أنه حكيم مطلق، وإما أن يكون من جهة البداء، وكشف الخلاف على ما هو الغالب في الأحكام والقوانين العرفية، وهو يستلزم الجهل منه تعالى. وعلى ذلك فيكون وقوع النسخ في الشريعة محالا لأنه يستلزم المحال.


ــ[278]ــ


والجواب:
إن الحكم المجعول من قبل الحكيم قد لا يراد منه البعث، أو الزجر الحقيقيين كالأوامر التي يقصد بها الامتحان، وهذا النوع من الأحكام يمكن إثباته أولا ثم رفعه، ولا مانع من ذلك، فان كلا من الإثبات والرفع في وقته قد نشأ عن مصلحة وحكمة، وهذا النسخ لا يلزم منه خلاف الحكمة، ولا ينشأ من البداء الذي يستحيل في حقه تعالى، وقد يكون الحكم المجعول حكما حقيقيا، ومع ذلك ينسخ بعد زمان، لا بمعنى أن الحكم بعد ثبوته يرفع في الواقع ونفس الأمر، كي يكون مستحيلا على الحكيم العالم بالواقعيات، بل هو بمعنى أن يكون الحكم المجعول مقيدا بزمان خاص معلوم عند الله، مجهول عند الناس، ويكون ارتفاعه بعد انتهاء ذلك الزمان، لانتهاء أمده الذي قيد به، وحلول غايته الواقعية التي أنيط بها.
والنسخ بهذا المعنى ممكن قطعا، بداهة: أن دخل خصوصيات الزمان في مناطات الأحكام مما لا يشك فيه عاقل، فإن يوم السبت - مثلا - في شريعة موسى(عليه السلام) قد اشتمل على خصوصية تقتضي جعله عيدا لأهل تلك الشريعة دون بقية الأيام، ومثله يوم الجمعة في الإسلام، وهكذا الحال في أوقات الصلاة والصيام والحج، وإذا تصورنا وقوع مثل هذا في الشرايع فلنتصور أن تكون للزمان خصوصية من جهة استمرار الحكم وعدم استمراره، فيكون الفعل ذا مصلحة في مدة معينة، ثم لا تترتب عليه تلك المصلحة بعد انتهاء تلك المدة، وقد يكون الأمر بالعكس.
وجملة القول: إذا كان من الممكن أن يكون للساعة المعينة، أو اليوم المعين أو الاسبوع المعين، أو الشهر المعين تأثير في مصلحة الفعل أو مفسدته أمكن دخل السنة في ذلك أيضا، فيكون الفعل مشتملا على مصلحة في سنين معينة، ثم لا تترتب


ــ[279]ــ


عليه تلك المصلحة بعد انتهاء تلك السنين، وكما يمكن أن يقيد إطلاق الحكم من غير جهة الزمان بدليل منفصل، فكذلك يمكن أن يقيد إطلاقه من جهة الزمان أيضا بدليل منفصل، فإن المصلحة قد تقتضي بيان الحكم على جهة العموم أو الإطلاق، مع أن المراد الواقعي هو الخاص أو المقيد، ويكون بيان التخصيص أو التقييد بدليل منفصل. فالنسخ في الحقيقة تقييد لإطلاق الحكم من حيث الزمان ولا تلزم منه مخالفة الحكمة ولا البداء بالمعنى المستحيل في حقه تعالى، وهذا كله بناء على أن جعل الأحكام وتشريعها مسبب عن مصالح أو مفاسد تكون في نفس العمل. وأما على مذهب من يرى تبعية الأحكام لمصالح في الأحكام أنفسها فإن الأمر أوضح، لأن الحكم الحقيقي على هذا الرأي يكون شأنه شأن الأحكام الامتحانية.
النسخ في التوراة:
وما قدمناه يبطل تمسك اليهود والنصارى باستحالة النسخ في الشريعة، لاثبات استمرار الأحكام الثابتة في شريعة موسى. ومن الغريب جدا أنهم مصرون على إحالة النسخ في الشريعة الإلهية، مع أن النسخ قد وقع في موارد كثيرة من كتب العهدين:
1 ـ فقد جاء في الاصحاح الرابع من سفر العدد (عدد 2، 3):
"خذ عدد بني قهات من بين بني لاوي حسب عشائرهم، وبيوت آبائهم من ابن ثلاثين سنة فصاعدا إلى ابن خمسين سنة، كل داخل في الجند ليعمل عملا في خيمة الاجتماع".
وقد نسخ هذا الحكم، وجعل مبدأ زمان قبول الخدمة بلوغ خمس وعشرين سنة


ــ[280]ــ


بما في الاصحاح الثامن من هذا السفر (عدد 23، 24): "وكلم الرب موسى قائلا هذا ما للاويين من ابن خمس وعشرين سنة فصاعدا، يأتون ليتجندوا أجنادا في خدمة خيمة الاجتماع".
ثم نسخ ثانيا: فجعل مبدأ زمان قبول الخدمة بلوغ عشرين سنة بما جاء في الاصحاح الثالث والعشرين من أخبار الأيام الاول (عدد 24، 32): "هؤلاء بنو لاوي حسب بيوت آبائهم رؤوس الآباء حسب إحصائهم في عدد الأسماء، حسب روؤسهم عامل العمل لخدمة بيت الرب من ابن عشرين سنة فما فوق... وليحرسوا حراسة خيمة الاجتماع، وحراسة القدس".
2 ـ و جاء في الإصحاح الثامن والعشرين من سفر العدد (عدد 3 ـ 7):
"وقل لهم هذا هو الوقود الذي تقربون للرب، خروفان حوليان صحيحان، لكل يوم محرقة دائمة. الخروف الواحد تعمله صباحا، والخروف الثاني تعمله بين العشاءين. وعشر الايفة من دقيق ملتوت بربع الهين من زيت الرض تقدمة… وسكيبها ربع الهين للخروف الواحد".
وقد نسخ هذا الحكم: وجعلت محرقة كل يوم حمل واحد حولي في كل صباح، وجعلت تقدمته سدس الايفة من الدقيق، وثلث الهين من الزيت بما جاء في الاصحاح السادس والأربعين من كتاب حزقيال (عدد 13 ـ 15): "وتعمل كل يوم محرقة للرب حملا حوليا صحيحا صباحا تعمله. وتعمل عليه تقدمة صباحا صباحا سدس الايفة. وزيتا ثلث الهين لرش الدقيق تقدمة للرب فريضة أبدية دائمة، ويعملون الحمل والتقدمة والزيت صباحا صباحا محرقة دائمة".
3 ـ وجاء في الاصحاح الثامن والعشرين من سفر العدد أيضا (عدد 9، 10): 


ــ[281]ــ


"وفي يوم السبت خروفان حوليان صحيحان، وعشران من دقيق ملتوت بزيت تقدمة مع سكيبه. محرقة كل سبت فضلا عن المحرقة الدائمة وسكيبها".
وقد نسخ هذا الحكم: وجعلت محرقة السبت ستة حملان وكبش، وجعلت التقدمة إيفة للكبش، وعطية يد الرئيس للحملان، وهين زيت للايفة بما جاء في الاصحاح السادس والأربعين من كتاب حزقيال أيضا (عدد 4، 5): "والمحرقة التي يقربها الرئيس للرب في يوم السبت ستة حملان صحيحة، وكبش صحيح. والتقدمة إيفة للكبش، وللحملان تقدمة عطية يده، وهين زيت للايفة".
4 ـ وجاء في الاصحاح الثلاثين من سفر العدد "عدد 2":
"إذا نذر رجل نذرا للرب، أو أقسم أن يلزم نفسه بلازم فلا ينقض كلامه، حسب كل ما خرج من فمه يفعل".
وقد نسخ جواز الحلف الثابت بحكم التوراة بما جاء في الاصحاح الخامس من إنجيل متى (عدد 33، 34): "أيضا سمعتم انه قيل للقدماء لا تحنث، بل أوف للرب أقسامك. وأما أنا فأقول لكم لا تحلفوا البتة".
5 ـ وجاء في الاصحاح الحادي والعشرين من سفر الخروج (عدد 23 ـ 25):
"وإن حصلت أذية تعطي نفسا بنفس، وعينا بعين وسنا بسن ويدا بيد ورجلا برجل، وكيا بكي وجرحا بجرح ورضا برض".
وقد نسخ هذا الحكم بالنهي عن القصاص في شريعة عيسى بما جاء في الاصحاح الخامس من إنجيل متى (عدد 38): "سمعتم أنه قيل عين بعين وسن بسن، وأما أنا فأقول لكم لا تقاوموا الشر، بل من لطمك على خدك الأيمن فحول له الآخر أيضا".


ــ[282]ــ


6 ـ وجاء في الاصحاح السابع عشر من سفر التكوين (عدد 10) في قول الله لإبراهيم:
"هذا هو عهدي الذي تحفظونه بيني وبينكم وبين نسلك من بعدك، يختن منكم كل ذكر". وقد جاء في شريعة موسى إمضاء ذلك. ففي الاصحاح الثاني عشر من سفر الخروج (عدد 48 ـ 49): "وإذا نزل عندك نزيل، وصنع فصحا للرب فليختن منه كل ذكر، ثم يتقدم ليصنعه فيكون كمولود الأرض، وأما كل أغلف فلا يأكل منه، تكون شريعة واحدة لمولود الأرض، وللنزيل النازل بينكم". وجاء في الاصحاح الثاني عشر من سفر اللاويين (عدد 2، 3): "إذا حبلت امرأة وولدت ذكرا تكون نجسة سبعة أيام كما في أيام طمث علتها تكون نجسة، وفي اليوم الثامن يختن لحم غرلته".
وقد نسخ هذا الحكم، ووضع ثقل الختان عن الأمة بما جاء في الاصحاح الخامس عشر من أعمال الرسل (عدد 24 ـ 30) وفي جملة من رسائل بولس الرسول.
7 ـ وجاء في الاصحاح الرابع والعشرين من التثنية (عدد 1 ـ 3):
"إذا أخذ رجل امرأة وتزوج بها فإن لم تجد نعمة في عينيه، لأن وجد فيها عيب شيء، وكتب لها كتاب طلاق ودفعه إلى يدها، وأطلقها من بيته، ومتى خرجت من بيته ذهبت وصارت لرجل آخر، فإن أبغضها الرجل الآخر وكتب لها كتاب طلاق، ودفعه إلى يدها وأطلقها من بيته أو إذا مات الرجل الأخير الذي اتخذها له زوجة، لا يقدر زوجها الأول الذي طلقها أن يعود يأخذها، لتصير له زوجة".
وقد نسخ الإنجيل ذلك وحرم الطلاق بما جاء في الاصحاح الخامس من متى


ــ[283]ــ


(عدد 31 ـ 32): "وقيل من طلق امرأته فليعطها كتاب طلاقها، وأما أنا فأقول لكم إن من طلق امرأته إلا لعلة الزنا يجعلها تزني، ومن يتزوج مطلقة فإنه يزني". وقد جاء مثل ذلك في الاصحاح العاشر من مرقس: عدد (11، 12) والاصحاح السادس عشر من لوقا (عدد 18).
وفيما ذكرناه كفاية لمن ألقى السمع وهو شهيد، ومن أراد الاطلاع على أكثر من ذلك فليراجع كتابي إظهار الحق(1) والهدى إلى دين المصطفى (2).
النسخ في الشريعة الاسلامية:
لا خلاف بين المسلمين في وقوع النسخ، فإن كثيرا من أحكام الشرائع السابقة قد نسخت بأحكام الشريعة الإسلامية، وإن جملة من أحكام هذه الشريعة قد نسخت بأحكام أخرى من هذه الشريعة نفسها، فقد صرح القرآن الكريم بنسخ حكم التوجه في الصلاة إلى القبلة الأولى، وهذا مما لا ريب فيه.
وإنما الكلام في أن يكون شيء من أحكام القرآن منسوخا بالقران، أو بالسنة القطعية، أو بالإجماع، أو بالعقل. وقبل الخوض في البحت عن هذه الجهة يحسن بنا أن نتكلم على أقسام النسخ، فقد قسموا النسخ في القرآن إلى ثلاثة أقسام:
1 ـ نسخ التلاوة دون الحكم:
وقد مثلوا لذلك بآية الرجم فقالوا: إن هذه الآية كانت من القرآن ثم نسخت تلاوتها وبقي حكمها، وقد قدمنا لك في بحث التحريف أن القول بنسخ التلاوة هو
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) للشيخ رحمة الله بن خليل الرحمن الهندي، وهو كتاب جليل نافع جدا.
(2) للإمام البلاغي.


ــ[284]ــ


نفس القول بالتحريف وأوضحنا أن مستند هذا القول أخبار آحاد وأن أخبار الآحاد لا أثر لها في أمثال هذا المقام.
فقد أجمع المسلمون على أن النسخ لا يثبت بخبر الواحد كما أن القرآن لا يثبت به، والوجه في ذلك - مضافا إلى الإجماع - أن الأمور المهمة التي جرت العادة بشيوعها بين الناس، وانتشار الخبر عنها على فرض وجودها لا تثبت بخبر الواحد فإن اختصاص نقلها ببعض دون بعض بنفسه دليل على كذب الراوي أو خطئه، وعلى هذا فكيف يثبت بخبر الواحد أن آية الرجم من القرآن، وانها قد نسخت تلاوتها، وبقي حكمها، نعم قد تقدم أن عمر أتى بآية الرجم وادعى انها من القرآن فلم يقبل قوله المسلمون، لأن نقل هذه الآية كان منحصرا به، ولم يثبتوها في المصاحف، فالتزم المتأخرون بأنها آية منسوخة التلاوة باقية الحكم.
2 ـ نسخ التلاوة والحكم:
ومثلوا لنسخ التلاوة والحكم معا بما تقدم نقله عن عائشة في الرواية العاشرة من نسخ التلاوة في بحث التحريف، والكلام في هذا القسم كالكلام على القسم الأول بعينه.
3 ـ نسخ الحكم دون التلاوة:
وهذا القسم هو المشهور بين العلماء والمفسرين، وقد ألف فيه جماعة من العلماء كتبا مستقلة، وذكروا فيها الناسخ والمنسوخ. منهم العالم الشهير أبوجعفر النحاس، والحافظ المظفر الفارسي، وخالفهم في ذلك بعض المحققين، فأنكروا وجود المنسوخ في القرآن. وقد اتفق الجميع على إمكان ذلك، وعلى وجود آيات في القرآن ناسخة لأحكام ثابتة في الشرائع السابقة، ولأحكام ثابتة في صدر الإسلام.


ــ[285]ــ


ولتوضيح ما هو الصحيح في هذا المقام نقول: إن نسخ الحكم الثابت في القرآن يمكن أن يكون على أقسام ثلاثة:
1 ـ إن الحكم الثابت بالقرآن ينسخ بالسنة المتواترة، أو بالإجماع القطعي الكاشف عن صدور النسخ عن المعصوم (عليه السلام) وهذا القسم من النسخ لا إشكال فيه عقلا ونقلا، فان ثبت في مورد فهو المتبع، وإلا فلا يلتزم بالنسخ، وقد عرفت أن النسخ لا يثبت بخبر الواحد.
2 ـ إن الحكم الثابت بالقرآن ينسخ بآية أخرى منه ناظرة إلى الحكم المنسوخ، ومبينة لرفعه، وهذا القسم أيضا لا إشكال فيه، وقد مثلوا لذلك بآية النجوى "وسيأتي الكلام عليها إن شاء الله تعالى".
3 ـ إن الحكم الثابت بالقرآن ينسخ بآية أخرى غير ناظرة إلى الحكم السابق، ولا مبينة لرفعه، وإنما يلتزم بالنسخ لمجرد التنافي بينهما فيلتزم بأن الآية المتأخرة ناسخة لحكم الآية المتقدمة.
والتحقيق: أن هذا القسم من النسخ غير واقع في القرآن، كيف وقد قال الله عز وجل:
{أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا} ( 4: 82).
ولكن كثيرا من المفسرين وغيرهم لم يتأملوا حق التأمل في معاني الآيات الكريمة، فتوهموا وقوع التنافي بين كثير من الآيات، والتزموا لأجله بأن الآية المتأخرة ناسخة لحكم الآية المتقدمة، وحتى أن جملة منهم جعلوا من التنافي ما إذا


ــ[286]ــ


كانت إحدى الآيتين قرينة عرفية على بيان المراد من الآية الأخرى، كالخاص بالنسبة إلى العام، وكالمقيد بالإضافة إلى المطلق، والتزموا بالنسخ في هذه الموارد وما يشبهها، ومنشأ هذا قلة التدبر، أو التسامح في إطلاق لفظ النسخ بمناسبة معناه اللغوي، واستعماله في ذلك وإن كان شائعا قبل تحقق المعنى المصطلح عليه، ولكن إطلاقه - بعد ذلك - مبتني على التسامح لا محالة.
مناقشة الآيات المدعى نسخها:
وعلى كل فلا بد لنا من الكلام في الآيات التي ادعي النسخ فيها. ونذكر منها ما كان في معرفة وقوع النسخ فيه وعدم وقوعه غموض في الجملة. أما ما كان عدم النسخ فيه ظاهرا - بعد ما قدمناه - فلا نتعرض له في المقام "وسنتعرض لذلك عند تفسيرنا الآيات إن شاء الله تعالى".
وليكن كلامنا في الآيات على حسب ترتيبها في القرآن الكريم:
1 ـ {ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره إن الله على كل شيء قدير} "2: 109".
فعن ابن عباس وقتادة والسدي، أنها منسوخة بآية السيف. واختاره أبو جعفر النحاس (1). وآية السيف هو قوله تعالى:
{قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) راجع "الناسخ والمنسوخ" ص 26، طبع المكتبة العلامية بمصر.


ــ[287]ــ


ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون }(9: 29).
والالتزام بالنسخ ـ هنا ـ يتوقف على الالتزام بأمرين فاسدين:
الأول: أن يكون ارتفاع الحكم المؤقت بانتهاء وقته نسخا، وهذا واضح الفساد، فان النسخ إنما يكون في الحكم الذي لم يصرح فيه لا بالتوقيت ولا بالتأبيد. فإن الحكم إذا كان موقتا ـ وإن كان توقيته على سبيل الإجمال ـ كان الدليل الموضح لوقته، والمبين لانتهائه من القرائن الموضحة للمراد عرفا، وليس هذا من النسخ في شيء. فإن النسخ هو رفع الحكم الثابت الظاهر بمقتضى الإطلاق في الدوام وعدم الاختصاص بزمان مخصوص.
وقد توهم الرازي أن من النسخ بيان الوقت في الحكم الموقت بدليل منفصل وهو قول بين الفساد، وأما الحكم الذي صرح فيه بالتأبيد، فعدم وقوع النسخ فيه ظاهر.
الثاني: أن يكون أهل الكتاب أيضا ممن أمر النبي (صلى الله عليه وآله) بقتالهم، وذلك باطل، فان الآيات القرآنية الآمرة بالقتال إنما وردت في جهاد المشركين ودعوتهم إلى الإيمان بالله تعالى وباليوم الآخر. وأما أهل الكتاب فلا يجوز قتالهم إلا مع وجود سبب آخر من قتالهم للمسلمين، لقوله تعالى:
{وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين} (2 : 190).
أو إلقائهم الفتنة بين المسلمين، لقوله تعالى بعد ذلك:
{والفتنة أشد من القتل} ( 2: 191).


ــ[288]ــ


أو امتناعهم عن إعطاء الجزية للآية المتقدمة، وأما مع عدم وجود سبب آخر فلا يجوز قتالهم لمجرد الكفر، كما هو صريح الآية الكريمة.
وحاصل ذلك: أن الأمر في الآية المباركة بالعفو والصفح عن الكتابيين، لأنهم يودون أن يردوا المسلمين كفارا - وهذا لازم عادي لكفرهم - لا ينافيه الأمر بقتالهم عند وجود سبب آخر يقتضيه، على أن متوهم النسخ في الآية الكريمة قد حل لفظ الأمر من قوله تعالى:
{حتى يأتي الله بأمره}(2 : 109).
على الطلب، فتوهم أن الله أمر بالعفو عن الكفار إلى أن يأمر المسلمين بقتالهم فحمله على النسخ.
وقد اتضح للقارئ أن هذا ـ على فرض صحته ـ لا يستلزم النسخ ولكن هذا التوهم ساقط، فإن المراد بالأمر هنا الأمر التكويني وقضاء الله تعالى في خلقه، ويدل على ذلك تعلق الإتيان به، وقوله تعالى بعد ذلك:
{إن الله على كل شيء قدير} (2: 109).
وحاصل معنى الآية الأمر بالعفو والصفح عن الكتابيين بودهم هذا، حتى يفعل الله ما يشاء في خلقه من عز الإسلام، وتقوية شوكته، ودخول كثير من الكفار في الإسلام، وإهلاك كثير من غيرهم، وعذابهم في الآخرة، وغير ذلك مما يأتي الله به من قضائه وقدره.


* * * * *


2 ـ {ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله إن الله واسع عليم} (115:2).


ــ[289]ــ


فقد نسب إلى جماعة منهم ابن عباس، وأبو العالية، والحسن، وعطاء، وعكرمة، وقتادة، والسدى، وزيد بن أسلم أن الآية منسوخة(1) واختلف في ناسخها فذكر ابن عباس أنها منسوخة بقوله تعالى:
{وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره} ( 150:2).
وذهب قتادة إلى أن الناسخ قوله تعالى:
{فول وجهك شطر المسجد الحرام} (2: 150).
كذلك ذكر القرطبي (2)، وذكروا في وجه النسخ أن النبي (صلى الله عليه وآله) وجميع المسلمين كانوا مخيرين في الصلاة إلى أية جهة شاؤوا وإن كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد اختار من الجهات جهة بيت المقدس، فنسخ ذلك بالأمر بالتوجه إلى خصوص بيت الله الحرام.
ولا يخفى ما في هذا القول من الوهن والسقوط، فان قوله تعالى:
{وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه}( 2: 143).
صريح في أن توجهه إلى بيت المقدس كان بأمر من الله تعالى لمصلحة كانت تقتضي ذلك، ولم يكن لاختيار النبي (صلى الله عليه وآله) في ذلك دخل أصلا.
والصحيح أن يقال في الآية الكريمة: إنها دالة على عدم اختصاص جهة خاصة بالله تعالى، فانه لا يحيط به مكان، فأينما توجه الإنسان في صلاته ودعائه وجميع عباداته فقد توجه إلى الله تعالى. ومن هنا استدل بها أهل البيت (عليهم السلام) على الرخصة
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) تفسير ابن كثير: 1 / 157، 158.
(2) تفسير القرطبي: 2 / 74.


ــ[290]ــ


للمسافر أن يتوجه في نافلته إلى أية جهة شاء، وعلى صحة صلاة الفريضة فيما إذا وقعت بين المشرق والمغرب خطأ، وعلى صحة صلاة المتحير إذا لم يعلم أين وجه القبلة. وعلى صحة سجود التلاوة إلى غير القبلة، وقد تلاها سعيد بن جبير (رحمه الله) لما أمر الحجاج بذبحه إلى الأرض (1) فهذه الآية مطلقة، وقد قيدت في الصلاة الفريضة بلزوم التوجه فيها إلى بيت المقدس تارة، وإلى الكعبة تارة أخرى، وفي النافلة أيضا في غير حال المشي على قول. وأما ما في بعض الروايات من أنها نزلت في النافلة فليس المراد أنها مختصة بذلك "وقد تقدم أن الآيات لا تختص بموارد نزولها".
وجملة القول: ان دعوى النسخ في الآية الكريمة يتوقف ثبوتها على أمرين:
الأول: أن تكون واردة في خصوص صلاة الفريضة، وهذا معلوم بطلانه، وقد وردت روايات من طريق أهل السنة في أنها نزلت في الدعاء وفي النافلة للمسافر، وفي صلاة المتحير، وفي من صلى إلى غير القبلة خطأ(2) وقد مر عليك ـ آنفا ـ استشهاد أهل البيت (عليهم السلام) بالآية المباركة في عدة موارد.
الثاني: أن يكون نزولها قبل نزول الآية الآمرة بالتوجه إلى الكعبة وهذا أيضا غير ثابت، وعلى ذلك فدعوى النسخ في الآية باطلة جزما. وفي بعض الروايات المأثورة عن أهل البيت (عليهم السلام) التصريح بأن الآية المباركة ليست منسوخة. نعم قد يراد من النسخ معنى عاما شاملا للتقييد، فإذا أريد به ذلك في المقام فلا مانع منه، ولا يبعد أن يكون هذا هو مراد ابن عباس من النسخ فيها، وقد أشرنا إليه فيما تقدم.


                                                                       * * * * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) تفسير القرطبي: 2 / 75.
(2) تفسير الطبري: 1 / 400 ـ 402.


ــ[291]ــ


3 ـ {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى} (2: 178).
فقد ادعي انها منسوخة بقوله تعالى:
{وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن} (5 : 45).
ومن أجل ذلك ذهب الجمهور من أهل السنة إلى أن الرجل يقتل بالمرأة من غير أن يرد إلى ورثته شيء من الدية(1) وخالف في ذلك الحسن وعطاء، فذهبا إلى أن الرجل لا يقتل بالمرأة. وقال الليث: إذا قتل الرجل امرأته لا يقتل بها خاصة (2) وذهبت الإمامية إلى أن ولي دم المرأة مخير بين المطالبة بديتها، ومطالبة الرجل القاتل بالقصاص، بشرط أداء نصف دية الرجل.
والمشهور بين أهل السنة: أن الحر لا يقتل بالعبد، وعليه إجماع الإمامية، وخالفهم في ذلك أبوحنيفة، والثوري، وابن أبي ليلى، وداود، فقالوا: إن الحر يقتل بعبد غيره (3)، وذهب شواذ منهم إلى أن الحر يقتل بالعبد وإن كان عبد نفسه (4).
والحق: أن الآية الأولى محكمة ولم يرد عليها ناسخ، والوجه في ذلك: أن الآية الثانية مطلقة من حيث العبد، والحر، والذكر، والأنثى فلا صراحة لها في حكم العبد، وحكم الأنثى. وعلى كل فان لم تكن الآية في مقام البيان من حيث خصوصية
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) تفسير القرطبي: 2 / 229.
(2) تفسير ابن كثير: 1 / 210.
(3) نفس المصدر ص 209. وقال ابن كثير: قال البخاري وعلي بن المديني، وإبراهيم النخعي، والثوري في رواية عنه: ويقتل السيد بعبده.
(4) أحكام القرآن للجصاص: 1 / 137.


ــ[292]ــ


القاتل والمقتول، بل كانت في مقام بيان المساواة في مقدار الاعتداء فقط، على ما هو مفاد قوله تعالى: {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم} (2: 194).
كانت مهملة ولا ظهور لها في العموم لتكون ناسخة للآية الأولى، وإن كانت في مقام البيان من هذه الناحية ـ وكانت ظاهرة في الإطلاق وظاهرة في ثبوت الحكم في هذه الأمة أيضا، ولم تكن للاخبار عن ثبوت ذلك في التوراة فقط ـ كانت الآية الأولى مقيدة لإطلاقها، وقرينة على بيان المراد منها، فإن المطلق لا يصلح لأن يكون ناسخا للمقيد وإن كان متأخرا عنه، بل يكون المقيد قرينة على التصرف في ظهور المطلق على ما هو الحال في المقيد المتأخر، وعلى ذلك فلا موجب للقول بجواز قتل الحر بالعبد.
وأما الرواية التي رووها عن علي (عليه السلام) عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) من قوله: "المسلمون تتكافأ دماؤهم"(1) فهي - على تقدير تسليمها - مخصصة بالآية، فان دلالة الرواية على جواز قتل الحر بالعبد إنما هي بالعموم.
ومن البين أن حجية العام موقوفة على عدم ورود المخصص عليه المتقدم منه والمتأخر. وأما ما روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) بطريق الحسن، عن سمرة فهو ضعيف السند، وغير قابل للاعتماد عليه. قال أبوبكر بن العربي: "ولقد بلغت الجهالة بأقوام أن قالوا: يقتل الحر بعبد نفسه ورووا في ذلك حديثا عن الحسن، عن سمرة قال النبي (صلى الله عليه وآله): من قتل عبده قتلناه (2)، وهذا حديث ضعيف"(3).
أقول: هذا، مضافا إلى أنها معارضة برواية عمرو بن
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سنن أبي داود: كتاب الجهاد، رقم الحديث: 2371. وسنن ابن ماجه: كتاب الديات، رقم الحديث: 2673. عن ابن عباس.
(2) سنن أبي داود: كتاب الديات، رقم الحديث: 3914، وسنن الترمذي كتاب الديات، رقم الحديث: 1334. وسنن النسائي: كتاب القسامة، رقم الحديث: 4655.


ــ[293]ــ


شعيب، عن أبيه، عن جده أن رجلا قتل عبده متعمدا، فجلده النبي (صلى الله عليه وآله) ونفاه سنة، ومحا سهمه من المسلمين، ولم يقده به(1). وبما رواه ابن عباس عن النبي (صلى الله عليه وآله) وبما رواه جابر، عن عامر، عن علي(عليه السلام): " لا يقتل حر بعبد"(2)، وبما رواه عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده أن أبابكر وعمر كانا لا يقتلان الحر بقتل العبد(3).
وقد عرفت أن روايات أهل البيت (عليهم السلام) مجمعة على أن الحر لا يقتل بالعبد، وأهل البيت هم المرجع في الدين بعد جدهم الأعظم (صلى الله عليه وآله) وبعد هذا فلا يبقي مجال لدعوى نسخ الآية الكريمة من جهة قتل الحر بالعبد.
وأما بالإضافة إلى قتل الرجل بالمرأة فليست الآية منسوخة أيضا، بناء على مذهب الإمامية والحسن وعطاء، نعم تكون الآية منسوخة على مسلك الجمهور، وتوضيح ذلك أن ظاهر قوله تعالى:
{كتب عليكم القصاص} ( 2: 178).
إن القصاص فرض واجب، ومن الواضح أنه إنما يكون فرضا عند المطالبة بالقصاص من ولي الدم، وذلك أمر معلوم من الخارج، ويدل عليه من الآية قوله تعالى فيها:
{فمن عفي له من أخيه شيء} (2 : 178).
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أحكام القرآن لأبي بكر بن العربي: 1 / 27.
(2) سنن البيهقي: 8 / 36.
(3) نفس المصدر: ص 34، 35.
(4) نفس المصدر: ص 34.


ــ[294]ــ


وعلى ذلك فالمستفاد من الآية الكريمة أن القاتل يجب عليه أن يخضع لحكم القصاص إذا طالبه ولي الدم بذلك، ومن الواضح أن هذا الحكم إنما يكون في قتل الرجل رجلا، أو قتل المرأة رجلا أو امرأة، فإن الرجل إذ قتل امرأة لا يجب عليه الانقياد للقصاص بمجرد المطالبة، وله الامتناع حتى يأخذ نصف ديته، ولا يأخذه الحاكم بالقصاص قبل ذلك.
وبتعبير آخر: تدل الآية المباركة على أن بدل الأنثى هي الأنثى، فلا يكون الرجل بدلا عنها، وعليه فلا نسخ في مدلول الآية، نعم ثبت من دليل خارجي أن الرجل القاتل يجب عليه أن ينقاد للقصاص حين يدفع ولي المرأة المقتولة نصف ديته، فيكون الرجل بدلا عن مجموع الأنثى ونصف الدية، وهو حكم آخر لا يمس بالحكم الأول المستفاد من الآية الكريمة، وأين هذا من النسخ الذي يدعيه القائلون به.
وجملة القول: أن ثبوت النسخ في الآية يتوقف على إثبات وجوب الانقياد على القاتل بمجرد مطالبة ولي المرأة بالقصاص، كما عليه الجمهور. وأنى لهم إثباته؟ فإنهم قد يتمسكون لإثباته بإطلاق الآية الثانية على ما صرحوا به في كلماتهم، وبعموم قول النبي(صلى الله عليه وآله): "المسلمون تتكافأ دماؤهم" وقد عرفت ما فيه.
وقد يتمسكون لإثبات ذلك بما رووه عن قتادة عن سعيد بن المسيب: أن عمر قتل نفرا من أهل صنعاء بامرأة وقادهم بها.
وعن ليث، عن الحكم، عن علي وعبدالله قالا: "إذا قتل الرجل المرأة متعمدا فهو بها قود".
وعن الزهري، عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن أبيه، عن جده أن


ــ[295]ــ


رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: "إن الرجل يقتل بالمرأة"(1).
وهو باطل من وجوه:
1 ـ إن هذه الروايات - لو فرضت صحتها - مخالفة للكتاب، وما كان كذلك لا يكون حجة. وقد عرفت - فيما تقدم - قيام الإجماع على أن النسخ لا يثبت بخبر الواحد.
2 ـ إنها معارضة بالروايات المروية عن أهل البيت (عليهم السلام) وبما رواه عطاء والشعبي، والحسن البصري، عن علي (عليه السلام) أنه قال في قتل الرجل امرأة: "إن أولياءالمرأة إن شاؤوا قتلوا الرجل وأدوا نصف الدية، وإن شاؤوا أخذوا نصف دية الرجل"(1).
3 ـ إن الرواية الأولى منها من المراسيل، فان ابن المسيب ولد بعد مضي سنتين من خلافة عمر(2) فتبعد روايته عن عمر بلا واسطة، وإذا سلمنا صحتها فهي تشتمل على نقل فعل عمر، ولا حجية لفعله في نفسه، وأن الرواية الثانية ضعيفة مرسلة، وأما الرواية الثالثة فهي على فرض صحتها مطلقة، وقابلة لأن تقيد بأداء نصف الدية.
ونتيجة ما تقدم:
أن الآية الكريمة لم يثبت نسخها بشيء، وأن دعوى النسخ إنما هي بملاحظة فتوى جماعة من الفقهاء، وكيف يمكن أن ترفع اليد عن قول الله تعالى بملاحظة قول زيد أو عمرو؟ ومما يبعث على العجب أن جماعة يفتون بخلاف القرآن مع إجماعهم
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أحكام القرآن للجصاص: 1 / 139.
(2) نفس المصدر: 1 / 120.
(3) تهذيب التهذيب: 4 / 86.


ــ[296]ــ


على أن القرآن لا ينسخ بخبر الواحد. وقد اتضح مما بيناه أن قوله تعالى:
{ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا} (17 : 33).
وقوله تعالى:
{ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب}( 2: 179).
لا يصلحان أن يكونا ناسخين للآية المتقدمة التي فرقت بين الرجل والأنثى، وبين الحر والعبد - وسيأتي استيفاء البحث في هذا الموضوع عند تفسيرنا الآية الكريمة إن شاء الله تعالى - .


*****


4 ـ {كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقا على المتقين} (2 : 180).
فقد ادعى جمع أنها منسوخة بآية المواريث، وادعى آخرون أنها منسوخة بما عن النبي (صلى الله عليه وآله) من قوله: "لا وصية لوارث"(1).
والحق: أن الآية ليست منسوخة. أما القول بنسخها بآية المواريث، فيرده أن الآيات قد دلت على أن الميراث مترتب على عدم الوصية، وعدم الدين. ومع ذلك فكيف يعقل كونها ناسخة لحكم الوصية؟ وقد قيل في وجه النسخ للآية: إن الميراث في أول الإسلام لم يكن ثابتا على الكيفية التي جعلت في الشريعة بعد ذلك، وإنما كان الإرث يدفع جميعه للولد، وما يعطى الوالدان من المال فهو بطريق الوصية فنسخ ذلك بآية المواريث.
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الناسخ والمنسوخ للنحاس: ص 20.


ــ[297]ــ


وهذا القول مدفوع:
أولا: بأن هذا غير ثابت، وإن كان مرويا في صحيح البخاري، لأن النسخ لا يثبت بخبر الواحد إجماعا.
ثانيا: إنه موقوف على تأخر آية المواريث عن هذه الآية، وأنى للقائل بالنسخ إثبات ذلك؟ أما دعوى القطع بذلك من بعض الحنفية فعهدتها على مدعيها.
ثالثا: إن هذا لا يتم في الأقربين، فانه لا إرث لهم مع الولد، فكيف يعقل أن تكون آية المواريث ناسخة لحكم الوصية للاقربين؟ وعلى كل فإن آية المواريث من حيث ترتبها على عدم الوصية تكون مؤكدة لتشريع الوصية ونفوذها، فلا معنى لكونها ناسخة لها.
وأما دعوى نسخ الآية بالرواية المتقدمة فهي أيضا باطلة من وجوه:
1 ـ ان الرواية لم تثبت صحتها، والبخاري ومسلم لم يرضياها. وقد تكلم في تفسير المنار على سندهما(1).
2 ـ إنها معارضة بالروايات المستفيضة عن أهل البيت (عليهم السلام) الدالة على جواز الوصية للوارث، ففي صحيحة محمد بن مسلم، عن أبي جعفر(عليه السلام) قال: سألته عن الوصية للوارث فقال: تجوز. قال: ثم تلا هذه الآية:
{إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين} ( 2: 180).
وبمضمونها روايات أخرى(2).
3 ـ إن الرواية لو صحت، وسلمت عن المعارضة بشيء فهي لا تصلح لنسخ
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) تفسير المنار: 2 / 138.
(2) الكافي: 7 / 10، باب الوصية للوارث، رقم الحديث: 5.


ــ[298]ــ


الآية، لأنها لا تنافيها في المدلول. غاية الأمر أنها تكون مقيدة لإطلاق الآية فتختص الوصية بالوالدين إذا لم يستحقا الإرث لمانع، وبمن لا يرث من الأقربين وإذا فرض وجود المنافاة بينها وبين الآية فقد تقدم أن خبر الواحد لا يصلح أن يكون ناسخا للقران بإجماع المسلمين، فالآية محكمة وليست منسوخة.
ثم ان الكتابة عبارة عن القضاء بشيء، ومنه قوله تعالى:
{كتب على نفسه الرحمة} (6: 12 ).
والعقل يحكم بوجوب امتثال حكم المولى وقضائه ما لم تثبت فيه رخصة من قبل المولى. ومعنى هذا أن الوصية للوالدين والأقربين واجبة بمقتضى الآية، ولكن السيرة المقطوع بثبوتها بين المسلمين، والروايات المأثورة عن الأئمة من أهل البيت (عليهم السلام) والإجماع المتحقق من الفقهاء في كل عصر قد أثبت لنا الرخصة فيكون الثابت من الآية بعد هذه الرخصة هو استحباب الوصية المذكورة، بل تأكد استحبابها على الإنسان، ويكون المراد من الكتابة فيها هو: القضاء بمعنى التشريع لا بمعنى الإلزام.


*****


5 ـ {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون} ( 183:2).
فقد ادعي أنها منسوخة بقوله تعالى:
{أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم} (2: 187).
وذكروا في وجه النسخ: أن الصوم الواجب على الأمة في بداية الأمر كان مماثلا


ــ[299]ــ


للصوم الواجب على الأمة السالفة، وأن من أحكامه أن الرجل إذا نام قبل أن يتعشى في شهر رمضان لم يجز له أن يأكل بعد نومه في ليلته تلك، وإذا نام أحدهم بعد المساء حرم عليه الطعام والشراب والنساء، فنسخ ذلك بقوله تعالى:
{وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض} (2:187).
وبقوله تعالى:
{أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم} (2: 187).
وقد اتفق علماء أهل السنة على أن آية التحليل ناسخة(1) ثم اختلفوا فقال بعضهم: هي ناسخة للآية السابقة، فانهم استفادوا منها أن الصوم الواجب في هذه الشريعة مماثل للصوم الواجب على الأمم السالفة، وقال بذلك أبوالعالية، وعطاء، ونسبه أبو جعفر النحاس إلى السدي أيضا(2) وقال بعضهم: إن آية التحليل ناسخة لفعلهم الذي كانوا يفعلونه.
ولا يخفى أن النسخ للآية الأولى موقوف على إثبات تقدمها على الآية الثانية في النزول، ولا يستطيع القائل بالنسخ إثباته، وعلى أن يكون المراد من التشبيه في الآية تشبيه صيام هذه الأمة، بصيام الأمم السالفة، وهو خلاف المفهوم العرفي، بل وخلاف صريح الآية، فان المراد بها تشبيه الكتابة بالكتابة فلا دلالة فيها على أن الصومين متماثلان لتصح دعوى النسخ، وإذا ثبت ذلك من الخارج كان نسخا لحكم ثابت بغير القرآن، وهو خارج عن دائرة البحث.
                                                                 * * * * *
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الناسخ والمنسوخ للنحاس: ص 24.
(2) نفس المصدر: ص 21.


ــ[300]ــ


6 ـ {وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين فمن تطوع خيرا فهو خير له} (2 : 184).
فادعي أنها منسوخة بقوله تعالى:
{فمن شهد منكم الشهر فليصمه} (185:2).
ودعوى النسخ في هذه الآية الكريمة واضحة الثبوت لو كان المراد من الطوق (الطاقة) السعة والقدرة، فان مفاد الآية على هذا: أن من يستطع الصوم فله أن لا يصوم ويعطي الفدية: طعام مسكين بدلا عنه، فتكون منسوخة.
ولكن من البين أن المراد من الطاقة: القدرة مع المشقة العظيمة. وحاصل المراد من الآية: أن الله تعالى بعد أن أوجب الصوم وجوبا تعيينيا في الآية السابقة، وأسقطه عن المسافر والمريض، وأوجب عليهما عدة من أيام أخر بدلا عنه، أراد أن يبين حكما آخر لصنف آخر من الناس وهم الذين يجدون في الصوم مشقة عظيمة وجهدا بالغا، كالشيخ الهم، وذي العطاش، والمريض الذي استمر مرضه إلى شهر رمضان الآخر، فأسقط عنهم وجوب الصوم أداء وقضاء، وأوجب عليهم الفدية، فالآية المباركة حيث دلت على تعيين وجوب الصوم على المؤمنين في الأيام المعدودات، وعلى تعين وجوبه قضاء في أيام أخر على المريض والمسافر، كانت ظاهرة في أن وجوب الفدية تعيينا إنما هو على غير هذين الصنفين اللذين تعين عليهما الصوم، ومع هذا فكيف يدعى أن المستفاد من الآية هو الوجوب التخييري بين الصوم والفدية لمن تمكن من الصوم، وإن أخبار أهل البيت (عليهم السلام) مستفيضة بما ذكرناه في تفسير الآية(1).
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) راجع التهذيب: 4 / 236، باب العاجز عن الصيام.


ــ[301]ــ


ولفظ الطاقة وإن استعمل في معنى القدرة والسعة إلا أن معناه اللغوي هو القدرة مع المشقة العظيمة، وإعمال غاية الجهد. ففي لسان العرب: "الطوق الطاقة أي أقصى غايته، وهو اسم لمقدار ما يمكنه أن يفعله بمشقة منه". ونقل عن ابن
الأثير والراغب أيضا التصريح بذلك.
ولو سلمنا أن معنى الطاقة هي السعة كان لفظ الإطاقة بمعنى إيجاد السعة في الشيء، فلابد من أن يكون الشيء في نفسه مضيقا لتكون سعته ناشئة من قبل الفاعل، ولا يكون هذا إلا مع إعمال غاية الجهد.
قال في تفسير المنار نقلا عن شيخه: "فلا تقول العرب: أطاق الشيء إلا إذا كانت قدرته عليه في نهاية الضعف، بحيث يتحمل به مشقة شديدة"(1).
فالآية الكريمة محكمة لا نسخ لها، ومدلولها حكم مغاير لحكم من وجب عليه الصوم أداء وقضاء. وجميع ما قدمناه مبني على القراءة المعروفة. أما على قراءة ابن عباس، وعائشة، وعكرمة، وابن المسيب حيث قرؤوا يطوقونه بصيغة المبني للمجهول من باب التفعيل (2) فالأمر أوضح. نعم بناء على قول ربيعة ومالك، بأن المشايخ والعجائز لا شيء عليهم إذا أفطروا (3) تكون الآية منسوخة، ولكن الشأن في صحة هذا القول، والآية الكريمة حجة على قائله.


*****


7 ـ {ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم كذلك جزاء الكافرين} (2 : 191).
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) راجع تفسير المنار: 2 / 156.
(2) أحكام القرآن للجصاص: ص 177.
(3) الناسخ والمنسوخ للنحاس: ص 23.


ــ[302]ــ


قال أبو جعفر النحاس: وأكثر أهل النظر على هذا القول أن الآية منسوخة، وأن المشركين يقاتلون في الحرم وغيره. ونسب القول بالنسخ إلى قتادة أيضا(1).
والحق: أن الآية محكمة ليست منسوخة. فإن ناسخ الآيةإن كان هو قوله تعالى:
{فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم}(9 : 5).
فهذا القول ظاهر البطلان، لأن الآية الأولى خاصة، والخاص يكون قرينة على بيان المراد من العام، وإن علم تقدمه عليه في الورود، فكيف إذا لم يعلم ذلك؟ وعلى هذا فيختص قتال المشركين بغير الحرم، إلا أن يكونوا هم المبتدئين بالقتال فيه، فيجوز قتالهم فيه حينئذ.
وإن استندوا في نسخ الآية إلى الرواية القائلة أن النبي (صلى الله عليه وآله) أمر بقتل ابن خطل ـ وقد كان متعلقا بأستار الكعبة ـ فهو باطل أيضا.
أولا: لأنه خبر واحد لا يثبت به النسخ.
ثانيا: لأنه لا دلالة له على النسخ، فانهم رووا في الصحيح عن النبي (صلى الله عليه وآله) قوله: "إنها لم تحل لأحد قبلي وإنما أحلت لي ساعة من نهارها"(2)، وصريح هذه الرواية أن ذلك من خصائص النبي (صلى الله عليه وآله) فلا وجه للقول بنسخ الآية إلا المتابعة لفتاوى جماعة من الفقهاء، والآية حجة عليهم.


*****


8 ـ {يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير}( 2: 217).
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) نفس المصدر: ص 28.
(2) فتح القدير للشوكاني: 1 / 168.


ــ[303]ــ


قال أبو جعفر النحاس. أجمع العلماء على أن هذه الآية منسوخة، وأن قتال المشركين في الشهر الحرام مباح، غير عطاء فانه قال: الآية محكمة، ولا يجوز القتال في الأشهر الحرم (1).
وأما الشيعة الإمامية فلا خلاف بينهم نصا وفتوى على أن التحريم باق، صرح بذلك في التبيان (2) وجواهر الكلام (3)، وهذا هو الحق، لأن المستند للنسخ إن كان هو قوله تعالى:
{فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم}(9 : 5).
كما ذكره النحاس فهو غريب جدا، فان الآية علقت الحكم بقتل المشركين على انسلاخ الأشهر الحرم، فقد قال تعالى:
{فإذا أنسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم}(9 : 5). فكيف يمكن أن تكون ناسخة لحرمة القتال في الشهر الحرام؟
وإن استندوا فيه إلى إطلاق آية السيف وهي قوله تعالى:
{قاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة}( 9: 36).
فمن الظاهر أن المطلق لا يكون ناسخا للمقيد، وإن كان متأخرا عنه.
وإن استندوا فيه إلى ما رووه عن ابن عباس وقتادة أن الآية منسوخة بآية السيف.
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الناسخ والمنسوخ للنحاس: ص 32.
(2) التبيان: 2 / 207، "سورة البقرة: 217".
(3) جواهر الكلام: 21/ 32، كتاب الجهاد.


ــ[304]ــ


فيرده:
أولا: أن النسخ لا يثبت بخبر الواحد.
وثانيا: أنها ليست رواية عن معصوم، ولعلها اجتهاد من ابن عباس وقتادة.
وثالثا: أنها معارضة بما رواه إبراهيم بن شريك، قال: حدثنا أحمد - يعني ابن عبدالله بن يونس - قال: حدثنا الليث، عن أبي الأزهر، عن جابر، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): "لا يقاتل في الشهر الحرام إلا أن يغزى أو يغزو"(1) فإذا حضر ذلك أقام حتى ينسلخ (2)، ومعارضة بما رواه أصحابنا الإمامية عن أهل البيت (عليهم السلام) من حرمة القتال في الأشهر الحرم.
وإن استندوا في النسخ إلى ما نقلوه من مقاتلة رسول الله (صلى الله عليه وآله) هوازن في حنين، وثقيفا في الطائف شهر شوال، وذي القعدة، وذي الحجة من الأشهر الحرم.
فيرده:
أولا: إن النسخ لا يثبت بخبر الواحد.
وثانيا: إن فعل النبي إذا صحت الرواية ـ مجمل يحتمل وقوعه على وجوه، ولعله كان لضرورة اقتضت وقوعه، فكيف يمكن أن يكون ناسخا للآية.


*****


9 ـ {ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن}(221:2).
فادعي أنها منسوخة بقوله تعالى:
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) مسند أحمد: باقي مسند المكثرين، رقم الحديث: 14056.
(2) الكافي: 1 / 357، رقم الحديث: 16، والتهذيب: 6 / 142، باب 23، رقم الحديث: 3.


ــ[305]ــ


{والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن} (5 : 5).
ذهب إليه ابن عباس، ومالك بن أنس، وسفيان بن سعيد، وعبدالرحمن بن عمر، والأوزاعي، وذهب عبدالله بن عمر إلى أن الآية الثانية منسوخة بالآية الأولى، فحرم نكاح الكتابية(1).
والحق: أنه لا نسخ في شيء من الآيتين فان المشركة التي حرمت الآية الأولى نكاحها، إن كان المراد منها التي تعبد الأصنام والأوثان ـ كما هو الظاهر ـ فإن حرمة نكاحها لا تنافي إباحة نكاح الكتابية التي دلت عليها الآية الثانية، لتكون إحداهما ناسخة والثانية منسوخة، وإن كان المراد من المشركة ما هو أعم من الكتابية ـ كما توهمه القائلون بالنسخ ـ كانت الآية الثانية مخصصة للآية الأولى ويكون حاصل معنى الآيتين جواز نكاح الكتابية دون المشركة.
نعم المعروف بين علماء الشيعة الإمامية أن نكاح الكتابية لا يجوز إلا بالمتعة، إما لتقييد إطلاق آية الإباحة بالروايات الدالة على تحريم النكاح الدائم، وإما لدعوى ظهور الآية الكريمة في المتعة دون العقد الدائم، ونقل الحسن والصدوقين جواز الدائم أيضا "وسنتعرض للكلام كل في محله إن شاء الله تعالى".


*****


10 ـ {لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي} (2: 256).
فقد قال جماعة: إنها منسوخة بقوله تعالى:
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الناسخ والمنسوخ للنحاس: ص 58.


ــ[306]ــ


{يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين} (9: 73).
وذهب بعضهم إلى أنها مخصوصة بأهل الكتاب، فإنهم لا يقاتلون لكفرهم، وقد عرفت ذلك فيما تقدم.
والحق: أن الآية محكمة وليست منسوخة، ولا مخصوصة، وتوضيح ذلك: أن الكره في اللغة يستعمل في معنيين، أحدهما: ما يقابل الرضا، ومنه قوله تعالى:
{وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم}(2: 216).
وثانيهما: ما يقابل الاختيار، ومنه قوله تعالى:
{حملته أمه كرها ووضعته كرها}(46 : 15).
فان الحمل والوضع يكونان في الغالب عن رضى، ولكنهما خارجان عن الاختيار، والقول بالنسخ أو بالتخصيص يتوقف على أن الإكراه في الآية قد استعمل بالمعنى الأول، وهو باطل لوجوه:
1 ـ إنه لا دليل على ذلك: ولا بد في حمل اللفظ المشترك على أحد معنييه من وجود قرينة تدل عليه.
2 ـ إن الدين أعم من الأصول والفروع، وذكر الكفر والإيمان بعد ذلك ليس فيه دلالة على الاختصاص بالأصول فقط، وإنما ذلك من قبيل تطبيق الكبرى على صغراها، ومما لا ريب فيه أن الإكراه بحق كان ثابتا في الشرع الإسلامي من أول الأمر على طبق السيرة العقلائية، وأمثلته كثيرة، فمنها إكراه المديون على أداء دينه، وإكراه الزوجة على إطاعة زوجها، وإكراه السارق على ترك السرقة، إلى أمثال ذلك، فكيف يصح أن يقال: إن الإكراه في الشريعة الإسلامية لم يكن في زمان.


ــ[307]ــ


3 ـ إن تفسير الإكراه في الآية بالمعنى الأول "ما يقابل الرضا" لا يناسبه قوله تعالى:
{قد تبين الرشد من الغي}(2: 256).
الا بأن يكون المراد بيان علة الحكم، وان عدم الإكراه إنما هو لعدم الحاجة إليه من جهة وضوح الرشد وتبينه من الغي، وإذا كان هذا هو المراد فلا يمكن نسخه، فإن دين الإسلام كان واضح الحجة، ساطع البرهان من أول الأمر، إلا أن ظهوره كان يشتد شيئا فشيئا، ومعنى هذا أن الإكراه في أواخر دعوة النبي (صلى الله عليه وآله) أحرى بأن لا يقع لأن برهان الإسلام في ذلك العهد كان أسطع، وحجته أوضح، ولما كانت هذه العلة مشتركة بين طوائف الكفار، فلا يمكن تخصيص الحكم ببعض الطوائف دون بعض، ولازم ذلك حرمة مقاتلة الكفار جميعهم، وهذه نتيجة باطلة بالضرورة.
فالحق: أن المراد بالإكراه في الآية ما يقابل الاختيار، وأن الجملة خبرية لا إنشائية، والمراد من الآية الكريمة هو بيان ما تكرر ذكره في الآيات القرآنية كثيرا، من أن الشريعة الإلهية غير مبتنية على الجبر، لا في أصولها ولا في فروعها، وإنما مقتضى الحكمة إرسال الرسل، وإنزال الكتب، وإيضاح الأحكام ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة، ولئلا يكون للناس على الله حجة، كما قال تعالى:
{إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا} (76: 3).
وحاصل معنى الآية أن الله تعالى لا يجبر أحدا من خلقه على إيمان ولا طاعة، ولكنه يوضح الحق يبينه من الغي، وقد فعل ذلك، فمن آمن بالحق فقد آمن به عن اختيار، ومن اتبع الغي فقد اتبعه عن اختيار والله سبحانه وإن كان قادرا على أن يهدي البشر جميعا ـ ولو شاء لفعل ـ لكن الحكمة اقتضت لهم أن يكونوا غير


ــ[308]ــ


مجبورين على أعمالهم، بعد إيضاح الحق لهم وتمييزه عن الباطل، فقد قال عز من قائل:
{ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا فينبئوكم بما كنتم فيه تختلفون 5 : 48. قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين 6: 149. وقال الذين أشركوا لو شاء الله ماعبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء كذلك فعل الذين من قبلهم فهل على الرسل إلا البلاغ المبين 16: 35}.


*****


11 ـ {واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا 4: 15. واللذان يأتيانها منكم فآذوهما فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما إن الله كان توابا رحيما: 16}.
فذهب بعضهم، ومنهم عكرمة وعبادة بن الصامت في رواية الحسن عن الرقاشي عنه أن الآية الأولى منسوخة بالثانية والثانية منسوخة في البكر من الرجال والنساء إذا زنى بأن يجلد مائة جلدة، وينفى عاما، وفي الثيب منهما أن يجلد مائة، ويرجم حتى يموت، وذهب بعضهم كقتادة ومحمد بن جابر إلى أن الآية الأولى مخصوصة بالثيب والثانية بالبكر، وقد نسخت كلتاهما بحكم الجلد والرجم، وذهب ابن عباس ومجاهد ومن تبعهما، كأبي جعفر النحاس إلى أن الآية الأولى مختصة بزناء النساء من ثيب أو بكر، والآية الثانية


ــ[309]ــ


مختصة بزناء الرجال ثيبا كان أو بكرا، وقد نسخت كلتاهما بحكم الرجم والجلد(1).
وكيف كان فقد ذكر أبوبكر الجصاص أن الأمة لم تختلف في نسخ هذين الحكمين عن الزانيين (2).
والحق: أنه لا نسخ في الآيتين جميعا، وبيان ذلك: أن المراد من لفظ الفاحشة ما تزايد قبحه وتفاحش، وذلك قد يكون بين امرأتين فيكون مساحقة وقد يكون بين ذكرين فيكون لواطا، وقد يكون بين ذكر وأنثى فيكون زنى، ولا ظهور للفظ الفاحشة في خصوص الزنا لا وضعا ولا انصرافا، ثم ان الالتزام بالنسخ في الآية الأولى يتوقف.
أولا: على أن الإمساك في البيوت حد لارتكاب الفاحشة.
ثانيا: على أن يكون المراد من جعل السبيل هو ثبوت الرجم والجلد وكلا هذين الأمرين لا يمكن إثباته، فان الظاهر من الآية المباركة أن إمساك المرأة في البيت إنما هو لتعجيزها عن ارتكاب الفاحشة مرة ثانية، وهذا من قبيل دفع المنكر، وقد ثبت وجوبه بلا إشكال في الأمور المهمة كالأعراض، والنفوس، والأمور الخطيرة، بل في مطلق المنكرات على قول بعض، كما أن الظاهر من جعل السبيل للمرأة التي ارتكبت الفاحشة هو جعل طريق لها تتخلص به من العذاب، فكيف يكون منه الجلد والرجم، وهل ترضى المرأة العاقلة الممسكة في البيت مرفهة الحال أن ترجم أو تجلد، وكيف يكون الجلد أو الرجم سبيلا لها وإذا كان ذلك سبيلا لها فما هو السبيل عليها؟!.
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الناسخ والمنسوخ: ص 98.
(2) أحكام القرآن للجصاص: 2 / 107.


ــ[310]ــ


وعلى ما تقدم: فقد يكون المراد من الفاحشة خصوص المساحقة، كما أن المراد بها في الآية الثانية خصوص اللواط، "وسنبين ذلك إن شاء الله تعالى"، وقد يكون المراد منها ما هو أعم من المساحقة والزنا، وعلى كلا هذين الاحتمالين يكون الحكم وجوب إمساك المرأة التي ارتكبت الفاحشة في البيت حتى يفرج الله عنها، فيجيز لهما الخروج إما للتوبة الصادقة التي يؤمن معها من ارتكاب الفاحشة مرة ثانية، وإما لسقوط المرأة عن قابلية ارتكاب الفاحشة لكبر سنها ونحوه، وإما بميلها إلى الزواج وتزوجها برجل يتحفظ عليها، وإما بغير ذلك من الأسباب التي يؤمن معها من ارتكاب الفاحشة. وهذا الحكم باق مستمر، وأما الجلد أو الرجم فهو حكم آخر شرع لتأديب مرتكبي الفاحشة، وهو أجنبي عن الحكم الأول، فلا معنى لكونه ناسخا له.
وبتعبير آخر: إن الحكم الأول شرع للتحفظ عن الوقوع في الفاحشة مرة أخرى والحكم الثاني شرع للتأديب على الجريمة الأولى، وصونا لباقي النساء عن ارتكاب مثلها فلا تنافي بين الحكمين لينسخ الأول بالثاني. نعم إذا ماتت المرأة بالرجم أو الجلد ارتفع وجوب الإمساك في البيت لحصول غايته، وفيما سوى ذلك فالحكم باق ما لم يجعل الله لها سبيلا.
وجملة القول: إن المتأمل في معنى الآية لا يجد فيها ما يوهم النسخ، سواء في ذلك تأخر آية الجلد عنها وتقدمها عليها.
وأما القول بالنسخ في الآية الثانية فهو أيضا يتوقف:
أولا: على أن يراد من الضمير في قوله تعالى: {يأتيانها} الزنا.
ثانيا: على أن يراد بالإيذاء الشتم والسب والتعيير ونحو ذلك، وكلا هذين


ــ[311]ــ


الأمرين ـ مع أنه لا دليل عليه ـ مناف لظهور الآية.
وبيان ذلك: أن ضمير الجمع المخاطب قد ذكر في الآيتين ثلاث مرات، ولا ريب أن المراد بالثالث منها هو المراد بالأولين. ومن البين أن المراد بهما خصوص الرجال، وعلى هذا ليكون المراد من الموصول رجلين من الرجال، ولا يراد منه ما يعم رجلا وامرأة، على أن تثنية الضمير لو لم يرد منه الرجلان فليس لها وجه صحيح، وكان الأولى أن يعبر عنه بصيغة الجمع، كما كان التعبير في الآية السابقة كذلك. وفي هذا دلالة قوية على أن المراد من الفاحشة في الآية الثانية هو خصوص اللواط لا خصوص الزنا، ولا ما هو أعم منه ومن اللواط وإذا تم ذلك كان موضوع الآية أجنبيا عن موضوع آية الجلد.
وإذا سلمنا دخول الزاني في موضوع الحكم في الآية، فلا دليل على إرادة نوع خاص من الإيذاء الذي أمر به في الآية، عدا ما روي عن ابن عباس أنه التعيير وضرب النعال، وهو ليس بحجة ليثبت به النسخ، فالظاهر حمل اللفظ على ظاهره، ثم تقييده بآية الجلد، أو بحكم الرجم الذي ثبت بالسنة القطعية.
وجملة القول: أنه لا موجب للالتزام بالنسخ في الآيتين، غير التقليد المحض، أو الاعتماد على أخبار الآحاد التي لا تفيد علما ولا عملا.


*****


12 ـ {وأحل لكم ما وراء ذلكم} (4: 24).
فقد قيل انها منسوخة بما دل من السنة على تحريم غير من ذكر في الآية من النساء، وثبوت هذه الدعوى موقوف على أن يكون الخاص المتأخر ناسخا للعام المتقدم لا مخصصا.


ــ[312]ــ


والحق: ان الخاص يكون مخصصا للعام تقدم عليه أو تأخر عنه، ولا يكون ناسخا له، ولأجل ذلك يكتفى بخبر الواحد الجامع لشرائط الحجية في تخصيص العام ـ على ما سيجيء من جواز تخصيص الكتاب بخبر الواحد ـ ولو كان الخاص المتأخر ناسخا لم يصح ذلك، لأن النسخ لا يثبت بخبر الواحد، أضف إلى ذلك أن الآية ليس لها عموم لفظي، وإنما هو ثابت بالإطلاق، ومقدمات الحكمة، فإذا ورد من الأدلة ما يصلح لتقييدها حكم بأن الإطلاق فيها غير مراد في الواقع.


*****


13 ـ {فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة} (2: 24).
فقد اشتهر بين علماء أهل السنة أن حلية المتعة قد نسخت، وثبت تحريمها إلى يوم القيامة، وقد أجمعت الشيعة الإمامية على بقاء حلية المتعة وأن الآية المباركة لم تنسخ، ووافقهم على ذلك جماعة من الصحابة والتابعين.
قال ابن حزم: "ثبت على إباحتها (المتعة) بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) ابن مسعود، ومعاوية، وأبو سعيد، وابن عباس، وسلمة ومعبد ابنا أمية بن خلف، وجابر، وعمرو بن حريث، ورواه جابر عن جميع الصحابة ـ مدة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأبي بكر وعمر إلى قرب آخر خلافة عمر (ثم قال) ومن التابعين طاووس، وسعيد بن جبير، وعطاء وسائر فقهاء مكة"(1).
ونسب شيخ الإسلام المرغيناني القول بجواز المتعة إلى مالك، مستدلا عليه بقوله: "لأنه ـ نكاح المتعة ـ كان مباحا فيبقى إلى أن يظهر ناسخه"(2).
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) هامش المنتقى للفقي: 2 / 520.
(2) الهداية في شرح البداية: ص 385 طبعة بولاق مع فتح القدير، وهذه النسبة قد أقرها الشيخ محمد البابرتي في شرحه على الهداية، نعم ان ابن الهمام الحنفي أنكر ذلك في فتح القدير والله العالم. وقال عبدالباقي المالكي الزرقاني في شرحه على مختصر أبي الضياء: 3 / 190: " حقيقة نكاح المتعة الذي يفسخ مطلقا أن يقع العقد مع ذكر الأجل من الرجل أو المرأة أو وليها بأن يعلمها بما قصده، واما إذا لم يقع ذلك في العقد، ولكنه قصده الرجل، وفهمت المرأة ذلك منه فإنه يجوز، قاله مالك، وهي فائدة حسنة تنفع المتغرب". (المؤلف).


ــ[313]ــ


ونسب ابن كثير جوازها إلى أحمد بن حنبل عند الضرورة في رواية(1) وقد تزوج ابن جريح أحد الأعلام وفقيه مكة في زمنه سبعين امرأة بنكاح المتعة (2) وسنتعرض إن شاء الله تعالى للبحث في هذا الموضوع عند تفسيرنا الآية الكريمة، ولكنا نتعرض هنا تعرضا إجماليا لإثبات أن مدلول الآية المباركة لم يرد عليه ناسخ. وبيان ذلك: أن نسخ الحكم المذكور فيها يتوقف:
أولا: على أن المراد من الاستمتاع في الآية هو التمتع بالنساء بنكاح المتعة.
ثانيا: على ثبوت تحريم نكاح المتعة بعد ذلك.
أما الأمر الأول: "إرادة التمتع بالنساء من الاستمتاع" فلا ريب في ثبوته وقد تظافرت في ذلك الروايات عن الطريقين، قال القرطبي: قال الجمهور المراد نكاح المتعة الذي كان في صدر الإسلام، وقرأ ابن عباس، وأبي، وابن جبير: "فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى فآتوهن أجورهن" (3)، ومع ذلك فلا يلتفت إلى قول الحسن بأن المراد منها النكاح الدائم، وأن الله لم يحل المتعة في كتابه، ونسب هذا القول إلى مجاهد، وابن عباس أيضا، والروايات المروية عنهما أن الآية نزلت في المتعة تكذب هذه النسبة.
وعلى كل حال فإن استفاضة الروايات في ثبوت هذا النكاح وتشريعه تغنينا عن تكلف إثباته، وعن إطالة الكلام فيه.
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) تفسير ابن كثير عند تفسير الآية المباركة: 1 / 474.
(2) راجع شرح الزرقاني على مختصر أبي الضياء: 8 / 76.
(3) تفسير القرطبي: 5 / 130، وقال ابن كثير في تفسيره: وكان ابن عباس وأبي بن كعب، وسعيد بن جبير، والسدي يقرؤون: "فما استمتعتم به
منهن إلى اجل مسمى فآتوهن أجورهن فريضة".


ــ[314]ــ


وأما الأمر الثاني: "تحريم نكاح المتعة بعد جوازه" فهو ممنوع، فإن ما يحتمل أن يعتمد عليه القائل بالنسخ هو أحد امور، وجميعها لا يصلح لأن يكون ناسخا، وهي:
1 ـ إن ناسخها هو قوله تعالى:
{يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن}(65 :1).
ونسب ذلك إلى ابن عباس (1).
ولكن النسبة غير صحيحة، فإنك ستعرف أن ابن عباس بقي مصرا على إباحة المتعة طيلة حياته.
والجواب عن ذلك ظاهر، لأن الالتزام بالنسخ إن كان لأجل أن عدد عدة المتمتع بها أقل من عدة المطلقة فلا دلالة في الآية، ولا في غيرها. على أن عدة النساء لا بد وأن تكون على نحو واحد، وإن كان لأجل أنه لا طلاق في نكاح المتعة، فليس للآية تعرض لبيان موارد الطلاق، وأنه في أي مورد يكون وفي أي مورد لا يكون. وقد نقل في تفسير المنار عن بعض المفسرين أن الشيعة يقولون بعدم العدة في نكاح المتعة(2).
سبحانك اللهم هذا بهتان عظيم. وهذه كتب فقهاء الشيعة من قدمائهم ومتأخريهم، ليس فيها من نسب إليه هذا القول، وإن كان على سبيل الشذوذ، فضلا عن كونه مجمعا عليه بينهم، وللشيعة مع هؤلاء الذين يفترون عليهم الأقاويل، وينسبون إليهم الأباطيل يوم تجتمع فيه الخصوم، وهنالك يخسر المبطلون (3).
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) راجع الناسخ والمنسوخ للنحاس: ص 105.
(2) المنار: 5/ 13 و14.
(3) سنتعرض لبعض هذه الافتراءات عند تفسيرنا قوله تعالى: {إياك نعبد وإياك نستعين} من هذا المجلد.(المؤلف).


ــ[315]ــ


2 ـ إن ناسخها قوله تعالى:
{ولكم نصف ما ترك أزواجكم} ( 4: 12).
من حيث أن المتمتع بها لا ترث ولا تورث فلا تكون زوجة. ونسب ذلك إلى سعيد بن المسيب، وسالم بن عبدالله، والقاسم بن أبي بكر(1).
الجواب:
إن ما دل على نفي التوارث في نكاح المتعة يكون مخصصا لآية الإرث ولا دليل على أن الزوجية بمطلقها تستلزم التوارث. وقد ثبت أن الكافر لا يرث المسلم، وأن القاتل لا يرث المقتول، وغاية ما ينتجه ذلك أن التوارث مختص بالنكاح الدائم، وأين هذا من النسخ؟!!
3 ـ إن ناسخها هو السنة، فقد رووا عن علي (عليه السلام) أنه قال لابن عباس:
"إنك رجل تائه. إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) نهى عن المتعة وعن لحوم الحمر الأهلية زمن خيبر"(2).
وروى الربيع بن سبرة، عن أبيه قال:
"رأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله) قائما بين الركن والباب وهو يقول: ياأيها الناس إني قد كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء، وإن الله قد حرم ذلك إلى يوم القيامة، فمن كان عنده منهن شيء فليخل سبيله، ولا تأخذوا مما اتيتموهن شيئا"(3).
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الناسخ والمنسوخ للنحاس: ص 105 ـ 106.
(2) صحيح مسلم: كتاب النكاح، رقم الحديث: 2510. وسنن النسائي: كتاب النكاح، رقم الحديث: 3312.
(3) صحيح مسلم: كتاب النكاح، رقم الحديث: 2502.


ــ[316]ــ


وروى سلمة، عن أبيه قال:
"رخص رسول الله (صلى الله عليه وآله) عام أوطاس في المتعة ثلاثا ثم نهى عنها" (1).
والجواب:
أولا: إن النسخ لا يثبت بخبر الواحد، وقد تقدم مرارا.
ثانيا: إن هذه الروايات معارضة بروايات أهل البيت (عليهم السلام) المتواترة التي دلت على إباحة المتعة، وأن النبي لم ينه عنها أبدا.
ثالثا: إن ثبوت الحرمة في زمان ما على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) لا يكفي في الحكم بنسخ الآية، لجواز أن يكون هذا الزمان قبل نزول الإباحة، وقد استفاضت الروايات من طرق أهل السنة على حلية المتعة في الأزمنة الأخيرة من حياة رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى زمان من خلافة عمر، فإن كان هناك ما يخالفها فهو مكذوب ولا بد من طرحه.
ولأجل التبصرة نذكر فيما يلي جملة من هذه الروايات:
1 ـ روى أبو الزبير قال:
"سمعت جابر بن عبدالله يقول كنا نستمتع بالقبضة من التمر والدقيق الأيام على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأبي بكر حتى نهى عنه - نكاح المتعة - عمر في شأن عمرو بن حريث"(2).
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) صحيح مسلم: كتاب النكاح، رقم الحديث 2499.
(2) نفس المصدر: رقم الحديث: 2497.


ــ[317]ــ


2 ـ و روى أبو نضرة قال:
"كنت عند جابر بن عبدالله فأتاه آت، فقال: [ان] ابن عباس وابن الزبير اختلفا في المتعتين - متعة الحج ومتعة النساء -فقال جابر: فعلناهما مع رسول (صلى الله عليه وآله) ثم نهانا عنهما عمر فلم نعد لهما"(1).
3 ـ و روى أبو نضرة عنه أيضا قال:
"متعتان كانتا على عهد النبي (صلى الله عليه وآله) فنهانا عنهما عمر فانتهينا"(2).
4 ـ وروى أبونضرة عنه أيضا: "تمتعنا متعتين على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) الحج والنساء فنهانا عنهما عمر فانتهينا"(3).
5 ـ و روى أبونضرة عنه أيضا قال:
"قلت إن ابن الزبير ينهى عن المتعة، وإن ابن عباس يأمر بها، قال: ـ جابرـ على يدي جرى الحديث، تمتعنا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومع أبي بكر، فلما ولي عمر خطب الناس، فقال: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) هذا الرسول، وإن القرآن هذا القرآن، وإنهما كانتا متعتان على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما،
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) صحيح مسلم: كتاب الحج، رقم الحديث: 2192. وكتاب النكاح، رقم الحديث: 2498.
(2) مسند احمد: 3 / 325، كتاب باقي مسند المكثرين، رقم الحديث: 13955.
(3) مسند احمد: 3 / 356، باقي مسند المكثرين، رقم الحديث: 14305، و14387.


ــ[318]ــ


إحداهما متعة النساء، ولا أقدر على رجل تزوج امرأة إلى أجل إلا غيبته بالحجارة.."(1).
6 ـ وروى عطاء قال:
"قدم جابر بن عبدالله معتمرا، فجئناه في منزله فسأله القوم عن أشياء، ثم ذكروا المتعة، فقال: نعم استمتعنا على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأبي بكر وعمر"(2). وأخرج ذلك أحمد في مسنده، وزاد فيه: "حتى إذا كان في آخر خلافة عمر"(3).
7 ـ وروى عمران بن حصين قال:
"نزلت آية المتعة في كتاب الله تبارك وتعالى، وعملنا بها مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) فلم تنزل آية تنسخها، ولم ينهى عنها النبي (صلى الله عليه وآله) حتى مات"(4). وذكرها الرازي عند لمسيره الآية المباركة بزيادة:
"ثم قال رجل برأيه ما شاء"(5).
8 ـ و روى عبدالله بن مسعود قال:
"كنا نغزو مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) ليس معنا نساء، قلنا ألا نستخصي؟ فنهانا عن ذلك، ثم رخص لنا أن ننكح المرأة بالثوب إلى أجل، ثم قرأ عبدالله:
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سنن البيهقي: 7/ 206، باب نكاح المتعة، وقال: أخرجه مسلم من وجه آخر عن همام.
(2) صحيح مسلم: 4 / 131، كتاب النكاح، باب نكاح المتعة.
(3) مسند احمد: 3 / 380.
(4) نفس المصدر: كتاب الحج، رقم الحديث: 2158.
(5) راجع صحيح مسلم: 4 / 48، كتاب الحج باب جواز التمتع، رقم الحديث: 2158. تجد هذه الزيادة فيه.


ــ[319]ــ


{يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا ما أحل لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتد ين} (5 : 87) (1).
أقول: إن قراءة عبدالله الآية صريحة في أن تحريم المتعة لم يكن من الله ولا من رسوله، وإنما هو أمر حدث بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله)0
9 ـ وروى شعبة، عن الحكم بن عيينة قال:
"سألته عن هذه الآية ـ آية المتعة ـ أمنسوخة هي؟ قال لا. قال الحكم: قال علي لولا أن عمر نهى عن المتعة ما زنى إلا شقي "(2).
وروى القرطبي ذلك عن عطاء، عن ابن عباس (3).
أقول: لعل المراد بالشقي ـ في هذه الرواية ـ هو ما فسر به هذا اللفظ في رواية أبي هريرة، قال:
" قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): لا يدخل النار إلا شقي، قيل: ومن الشقي؟ قال: الذي لا يعمل بطاعة، ولا يترك لله معصية"(4).
10 ـ وروى عطاء قال:
"سمعت ابن عباس يقول: رحم الله عمر، ما كانت المتعة إلا رحمة من الله تعالى رحم الله بها أمة محمد (صلى الله عليه وآله) ولولا نهيه لما احتاج إلى الزنا إلا شفا"(5).
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) صحيح البخاري: كتاب النكاح، رقم الحديث: 4686. وصحيح مسلم: كتاب النكاح، رقم الحديث: ص 249.
(2) تفسير الطبري عند تفسير الآية المباركة: 5 / 9.
(3) تفسير القرطبي: 5 / 130.
(4) مسند احمد: .2/ 349، باقي مسند المكثرين، رقم الحديث: 8239.
(5) أحكام القرآن للجصاص: 2/ 147. الشفا: القليل.


ــ[320]ــ


ثم إن الروايات التي استند إليها القائل بالفسخ على طوائف.
منها: ما ينتهي سنده إلى الربيع بن سبرة، عن أبيه، وهي كثيرة، وقد صرح في بعضها بأن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قام بين الركن والمقام، أو بين الباب والمقام، وأعلن تحريم نكاح المتعة إلى يوم القيامة(1).
ومنها: ما روي عن علي (عليه السلام) أنه روى تحريمها عن رسول الله (صلى الله عليه وآله).
ومنها: ما روي عن سلمة بن الأكوع.
أما ما ينتهي سنده إلى سبرة، فهو وإن كثرت طرقه إلا أنه خبر رجل واحد "سبرة" وخبر الواحد لا يثبت به النسخ. على أن مضمون بعض هذه الروايات يشهد بكذبها، إذ كيف يعقل أن يقوم النبي (صلى الله عليه وآله) خطيبا بين الركن والمقام، أو بين الباب والمقام، ويعلن تحريم شيء إلى يوم القيامة بجمع حاشد من المسلمين، ثم لا يسمعه غير سبرة، أو أنه لا ينقله أحد من ألوف المسلمين سواه، فأين كان المهاجرون والأنصار الذين كانوا يلتقطون كل شاردة وواردة من أقوال النبي (صلى الله عليه وآله) وأفعاله؟ وأين كانت الرواة الذين كانوا يهتمون بحفظ إشارات يد النبي (صلى الله عليه وآله) ولحظات عينيه، ليشاركوا سبرة في رواية تحريم المتعة إلى يوم القيامة؟ ثم أين كان عمر نفسه عن هذا الحديث ليستغني به عن إسناد التحريم إلى نفسه؟! أضف إلى ذلك أن روايات سبرة متعارضة، يكذب بعضها بعضا، ففي بعضها أن التحريم كان في عام الفتح (2) وفي بعضها أنه كان في حجة الوداع (3) وعلى الجملة إن رواية سبرة هذه في تحريم المتعة لا يمكن الأخذ بها من جهات شتى.
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) صحيح مسلم: 4 / 133، كتاب النكاح، رقم الحديث: 2502، 2503، و2509.
(2) صحيح مسلم: 4 / 133، كتاب النكاح، رقم الحديث: 2502، 2503، و2509.
(3) سنن ابن ماجة كتاب النكاح، رقم الحديث: 1952.


ــ[321]ــ


وأما ما روي عن علي (عليه السلام) في تحريم المتعة فهو موضوع قطعا، وذلك لاتقاق المسلمين على حليتها عام الفتح، فكيف يمكن أن يستدل علي (عليه السلام) على ابن عباس بتحريمها في خيبر، ولأجل ذلك احتمل بعضهم أن تكون جملة (زمن خيبر) في الرواية المتقدمة راجعة إلى تحريم لحوم الحمر الأهلية، لا إلى تحريم المتعة، ونقل هذا الاحتمال عن ابن عيينة كما في المنتقى، وسنن البيهقي في باب المتعة (1).
وهذا الاحتمال باطل من وجهين:
1 ـ مخالفته للقواعد العربية: لأن لفظ النهي في الرواية لم يذكر إلا مرة واحدة في صدر الكلام، فلا بد وأن يتعلق الظرف به، فالذي يقول: أكرمت زيدا وعمروا يوم الجمعة، لا بد وأن يكون مراده أنه أكرمهما يوم الجمعة، أما إذا كان المراد أن إكرامه لعمرو بخصوصه كان يوم الجمعة فلا بد له من أن يقول: أكرمت زيدا، وأكرمت عمروا يوم الجمعة.
2 ـ إن هذا الاحتمال مخالف لصريح رواية البخاري، ومسلم، وأحمد عن علي (عليه السلام) أنه قال: "نهى رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن متعة النساء يوم خيبر، وعن لحوم الحمر الانسية"(2) وروى البيهقي ـ في باب المتعة ـ عن عبدالله بن عمر أيضا رواية تحريم المتعة يوم خيبر(3).
وأما ما روي عن سلمة بن الأكوع، عن أبيه، قال:
"رخص رسول الله (صلى الله عليه وآله) في متعة النساء عام أوطاس ثلاثة أيام ثم نهى عنها".
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سنن البيهقي: 7 / 220.
(2) المنتقى: 2 / 519. راجع صحيح البخاري: كتاب المخازي رقم الحديث: 3894 ، كتاب النكاح، رقم الحديث: 4723. وصحيح مسلم: كتاب النكاح، رقم الحديث: 2510. ومسند احمد: مسند العشرة المبشرين بالجنة، رقم الحديث: 558. وسنن ابن ماجة: كتاب النكاح، رقم الحديث: 1951.
(3) سنن البيهقي: 7 / 202.


ــ[322]ــ


فهو خبر واحد، لا يثبت به النسخ، على أن ذلك لو كان صحيحا لم يكن خفيا عن ابن عباس، وابن مسعود، وجابر، وعمرو بن حريث، ولا عن غيرهم من الصحابة والتابعين وكيف يصح ذلك ولم يحرم أبوبكر المتعة أيام خلافته، ولم يحرمها عمر في شطر كبير من أيامه، وإنما حرمها في أواخر أمره.
وقد مر عليك كلام ابن حزم في ثبوت جماعة من الصحابة والتابعين على إباحة المتعة، ومما يدل على ما ذكره ابن حزم من فتوى جماعة من الصحابة بإباحة المتعة: ما رواه ابن جرير في تهذيب الآثار، عن سليمان بن يسار، عن أم عبدالله ابنة أبي خيثمة: "إن رجلا قدم من الشام فنزل عليها، فقال: إن العزبة قد اشتدت علي فابغيني امرأة أتمتع معها، قالت: فدللته على امرأة فشارطها وأشهدوا على ذلك عدولا، فمكث معها ما شاء الله أن يمكث، ثم إنه خرج فأخبر عن ذلك عمر بن الخطاب، فأرسل إلي فسألني أحق ما حدثت؟ قلت: نعم. قال: فإذا قدم فآذنيني به، فلما قدم أخبرته فأرسل إليه، فقال: ما حملك على الذي فعلته؟ قال: فعلته مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) ثم لم ينهنا عنه حتى قبضه الله ثم مع أبي بكر فلم ينهنا عنه حتى قبضه الله، ثم معك فلم تحدث لنا فيه نهيا، فقال عمر: أما والذي نفسي بيده لو كنت تقدمت في نهي لرجمتك، بينوا حتى يعرف النكاح من السفاح".
وما رواه ابن جرير أيضا، وأبو يعلى في مسنده، وأبو داود في ناسخه عن علي (عليه السلام) قال:


ــ[323]ــ


"لولا ما سبق من رأي عمر بن الخطاب لأمرت بالمتعة، ثم ما زنى إلا شقي" (1).
وفي هاتين الروايتين وجوه من الدلالة على أن التحريم إنما كان من عمر:
الأول: شهادة الصحابي، وشهادة علي (عليه السلام) على أن تحريم المتعة لم يكن في زمان النبي (صلى الله عليه وآله) ولا بعده إلى أن حرمها عمر برأيه.
الثاني: شهادة العدول عن المتعة في الرواية الأولى، مع عدم نهيهم عنها تدل على أنهم كانوا يجوزونها.
الثالث: تقرير عمر دعوى الشامي أن النبي (صلى الله عليه وآله) لم ينه عنها.
الرابع: قول عمر للشامي: "لو كنت تقدمت في نهي لرجمتك" فانه صريح في أن عمر لم يتقدم بالنهي قبل هذه القصة، ومعنى ذلك: أن عمر قد اعترف بأن المتعة لم ينه عنها قبل ذلك.
الخامس: قول عمر: "بينوا حتى يعرف النكاح من السفاح" فانه يدل على أن المتعة كانت شائعة بين المسلمين، فأراد أن يبلغ نهيه عن المتعة إليهم لينتهوا عنها بعد ذلك، ولعل لهذه القصة دخلا مباشرا أو غير مباشر في تحريم عمر للمتعة، فإن إنكاره على الشامي عمله هذا مع شهادة الحديث بأن التمتع كان أمرا شايعا بين المسلمين ووصول الخبر إليه، مع أن هذه الأشياء لا يصل خبرها إلى السلطان عادة، كل هذا يدلنا على أن في الأمر سرا جهلته الرواة، أو أنهم أغفلوه فلم يصل إلينا خبره. ويضاف إلى ذلك أن رواية سلمة بن الأكوع ليس فيها ظهور في أن النهي كان من النبي (صلى الله عليه وآله) فمن المحتمل ان لفظ "نهى" في الرواية بصيغة المبني للمفعول
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) كنز العمال: 8 / 294.


ــ[324]ــ


وأريد منه نهي عمر بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله).
وعلى الجملة: انه لم يثبت بدليل مقبول نهي رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن المتعة ومما يدل على أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) لم ينه عن المتعة: أن عمر نسب التحريم إلى نفسه حيث قال: "متعتان كانتا على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما"(1). ولو كان التحريم من النبي (صلى الله عليه وآله) لكان عليه أن يقول: نهى النبي عنهما.
4 ـ ان ناسخ جواز المتعة الثابت بالكتاب والسنة هو الإجماع على تحريمها. والجواب عن ذلك:
إن الإجماع لا حجية له إذا لم يكن كاشفا عن قول المعصوم وقد عرفت أن تحريم المتعة لم يكن في عهد النبي (صلى الله عليه وآله) ولا بعده إلى مضي مدة من خلافة عمر، أفهل يجوز في حكم العقل أن يرفض كتاب الله وسنة نبيه بفتوى جماعة لم يعصموا من الخطأ؟ ولو صح ذلك لأمكن نسخ جميع الأحكام التي نطق بها الكتاب، أو أثبتتها السنة القطعية، ومعنى ذلك أن يلتزم بجواز نسخ وجوب الصلاة، أو الصيام، أو الحج بآراء المجتهدين، وهذا مما لا يرضى به مسلم.
أضف إلى ذلك: أن الإجماع لم يتم في مسألة تحريم المتعة، وكيف يدعى الإجماع على ذلك، مع مخالفة جمع من المسلمين من أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله) ومن بعده ولاسيما أن قول هؤلاء بجواز المتعة موافق لقول أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا، وإذن فلم يبق إلا تحريم عمر.
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) تقدم ذلك في الرواية الخامسة من روايات جابر، ورواه ابوصالح كاتب الليث في نسخته والطحاوي، ورواه ابن جرير في تهذ يب الآثار، وابن  عساكر إلا ان عمر قال في ما روياه "واضرب فيهما"، راجع كنز العمال: 8 / 293، 294.


ــ[325]ــ


ومن البين أن كتاب الله وسنة نبيه أحق بالإتباع من غيرهما، ومن أجل ذلك أفتى عبدالله بن عمر بالرخصة بالتمتع في الحج، فقال له ناس:
"كيف تخالف أباك وقد نهى عن ذلك، فقال لهم: ويلكم ألا تتقون... أفرسول الله (صلى الله عليه وآله) أحق أن تتبعوا سنته أم سنة عمر؟"(1).
وخلاصة ما تقدم: أن جميع ما تمسك به القائلون بالنسخ لا يصلح أن يكون ناسخا لحكم الآية المباركة، الذي ثبت ـ قطعا ـ تشريعه في الإسلام.
الرجم على المتعة:
قد صح في عدة روايات ـ تقدم بعضها ـ أن عمر حكم بالرجم على المتعة. فمنها: ما رواه جابر، قال:
"تمتعنا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) فلما قام عمر قال إن الله كان يحل لرسوله ما شاء بما شاء، وإن القرآن قد نزل منازله، فأتموا الحجة والعمرة لله كما أمركم، وأبتوا نكاح هذه النساء فلن أوتى برجل نكح امرأة إلى أجل إلا رجمته بالحجارة"(2).
ومنها: ما رواه الشافعي، عن مالك، عن ابن شهاب، عن عروة أن خولة بنت حكيم دخلت على عمر بن الخطاب فقالت:
"إن ربيعة بن أمية استمتع بامرأة مولدة فحملت منه فخرج
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) مسند احمد: 2 / 95، مسند المكثرين من الصحابة، رقم الحديث: 5441.
(2) صحيح مسلم: 4 / 36، كتاب الحج باب المتعة بالحج والعمرة، رقم الحديث: 2135. وروى الطيالسي قريبا منها عن جابر في مسنده: 8 / 247.


ــ[326]ــ


عمر يجر رداءه فزعا، فقال: هذه المتعة ولو كنت تقدمت فيه لرجمته"(1).
ومنها: ما رواه نافع عن عبدالله بن عمر:
"إنه سئل عن متعة النساء، فقال: حرام، أما إن عمر بن الخطاب لو أخذ فيها أحدا لرجمه"(2).
ونهج ابن الزبير هذا المنهج، فإنه حينما أنكر نكاح المتعة، قال له ابن عباس:
"إنك لجلف جاف، فلعمري لقد كانت المتعة تفعل على عهد إمام المتقين ـ رسول الله ـ فقال له ابن الزبير: فجرب بنفسك فوالله لئن فعلتها لأرجمنك بأحجارك"(3).
وهذا من الغريب، وكيف يستحق الرجم رجل من المسلمين خالف عمر في الفتيا واستند في قوله هذا إلى حكم رسول الله (صلى الله عليه وآله) ونص الكتاب، ولنفرض أن هذا الرجل كان مخطئا في اجتهاده، أفليست الحدود تدرأ بالشبهات؟! على أن ذلك فرض محض، وقد علمت أنه لا دليل يثبت دعوى النسخ.
وما أبعد هذا القول من مذهب أبي حنيفة، حيث يرى سقوط الحد إذا تزوج الرجل بامرأة نكاحا فاسدا وبإحدى محارمه في النكاح، ودخل بها مع العلم بالحرمة وفساد العقد(4) وأنه إذا استأجر امرأة فزنى بها، سقط الحد لأن الله تعالى
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سنن البيهقي: 7 / 206، باب نكاح المتعة. وموطأ مالك: كتاب النكاح، رقم الحديث: 995. ومنه "ولو كنت تقدمت فيها لرجمت".
(2) نفس المصدر.
(3) صحيح مسلم: 4 / 133، كتاب النكاح، باب نكاح المتعة رقم الحديث: 2508.
(4) الهداية، وفتح القدير: 4 / 147.


ــ[327]ــ


سمى المهر أجرا. وقد روي تحو ذلك عن عمر بن الخطاب أيضا(1).
مزاعم حول المتعة:
زعم صاحب المنار أن التمتع ينافي الإحصان، بل يكون قصده الأول المسافحة، لأنه ليس من الإحصان في شيء أن تؤجر المرأة نفسها كل طائفة من الزمن لرجل، فتكون كما قيل:
                                                      كرة حذفت بصوالجة      فتلقفها رجل رجل
وزعم أنه ينافي قوله تعالى:
{والذين هم لفروجهم حافظون 23 : 5. إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين: 6. فمن ابتغى وراء ذالك فأولئك هم العادون: 7}.
ثم ذكر أن تحريم عمر لم يكن من قبل نفسه، فان ثبت أنه نسبه إلى نفسه فمعناه أنه بين تحريمها، أو أنه أنفذه. ثم إنه استغفر بعد ذلك عما كتبه في المنار من أن عمر منع المتعة اجتهادا منه ووافقه عليه الصحابة(2).
ودفعا لهذه المزاعم نقول: أما حكاية منافاة التمتع للإحصان فهو مبني على ما يزعمه هو من أن المتمتع بها ليست زوجة، وقد أوضحنا - فيما تقدم - فساد هذا القول ومنه يظهر أيضا فساد توهمه أن جواز التمتع ينافي وجوب حفظ الفروج على غير الأزواج.
وأما تعبيره عن عقد المتعة باجارة المرأة نفسها، وتشبيه المرأة بالكرة التي
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أحكام القرآن للجصاص: 2 / 146.
(2) تفسير المنار: 5 / 13 ـ 16.


ــ[328]ــ


تتلقفها الأيدي، فهو - لو كان صحيحا - لكان ذلك اعتراضا على تشريع هذا النوع من النكاح على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) لأن هذا التشبيه والتقبيح لا يختص بزمان دون زمان، ولا يشك مسلم في أن التمتع كان حلالا على عهد رسول الله (صلىالله عليه وآله) وقد عرفت ـ فيما تقدم ـ أن إباحته استمرت حتى إلى مدة من عهد عمر.
ومن الغريب: أن يصرح – هنا - انه لا يقصد غير بيان الحق، وانه لم يتعصب لمذهب، ثم يجره التعصب إلى أن يشنع على ما ثبت في الشرع الإسلامي بنص الكتاب والسنة وإجماع المسلمين، وإن وقع الاختلاف بينهم في نسخه واستمراره. أضف إلى ذلك أن انتقال المرأة من رجل إلى رجل لو كان قبيحا لكان ذلك مانعا عن طلاق المرأة في العقد الدائم، لتنتقل إلى عصمة رجل آخر، وعن انتقال المرأة بملك اليمين، ولم يستشكل في ذلك أحد من المسلمين، إلا أن صاحب المنار في مندوحة عن هذا الإشكال، لأنه يرى المنع من الاسترقاق، وأن في تجويزه مفاسد كثيرة، وزعم أن العلماء الأعلام أهملوا ذكر ذلك، وذهب إلى بطلان العقد الدائم، إذا قصد الزوج من أول الأمر الطلاق بعد ذلك، وخالف في ذلك فتاوى فقهاء المسلمين.
ومن الغريب أيضا: ما وجه به نسبة عمر تحريم المتعة إلى نفسه، فإنه لا ينهض ذلك بما زعمه، فإن بيان عمر للتحريم إما أن يكون اجتهادا منه على خلاف قول النبي (صلى الله عليه وآله)، وإما أن يكون اجتهادا منه بتحريم النبي إياها، وإما أن يكون رواية منه للتحريم عن النبي (صلى الله عليه وآله).
أما احتمال أن يكون قوله رواية عن النبي (صلى الله عليه وآله) فلا يساعد عليه نسبة التحريم، والنهي إلى نفسه في كثير من الروايات. على أنه إذا كان رواية، كانت معارضة بما تقدم من الروايات الدالة على بقاء إباحة المتعة إلى مدة غير يسيرة من خلافة عمر، وأين كان عمر أيام خلافة أبي بكر؟ وهلا أظهر روايته لأبي بكر ولسائر المسلمين؟ على


ــ[329]ــ


أن رواية عمر خبر واحد لا يثبت به النسخ.
وأما احتمال أن يكون قول عمر هذا اجتهادا منه بتحريم النبي نكاح المتعة فهو أيضا لا معنى له بعد شهادة جماعة من الصحابة بإباحته في زمان رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى وفاته. على أن اجتهاده هذا لا يجدي غيره ممن لم يؤمر باتباع اجتهاده ورأيه، بل وهذان الاحتمالان مخالفان لتصريح عمر في خطبته: "متعتان كانتا على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما".
وإذن فقد انحصر الأمر في أن التحريم كان اجتهادا منه على خلاف قول رسول الله بالإباحة، ولأجل ذلك لم تتبعه الأمة في تحريمه متعة الحج وفي ثبوت الحد في نكاح المتعة، فإن اللازم على المسلم أن يتبع قول النبي (صلى الله عليه وآله) وأن يرفض كل اجتهاد يكون على خلافه:
{وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم} (33 : 36).
وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): "ما أحللت إلا ما أحل الله، ولا حرمت إلا ما حرم الله" (1).
وقال (صلى الله عليه وآله): "فوالذي نفسي بيده ما يخرج منه ـ فمه ـ إلا حق"(2).
ومع هذا كله: فقد قال القوشجي في الاعتذار عن تحريم عمر المتعة، خلافا لرسول الله وأجيب: "بأن ذلك ليس مما يوجب قدحا فيه، فإن مخالفة المجتهد لغيره في المسائل الاجتهادية ليس ببدع"(3).
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) طبقات ابن سعد: 4 / 72 طبعة مصر، وبمضمونها رواية ما بعدها.
(2) سنن أبى داود: كتاب العلم، رقم الحديث: 3161. راجع التاج: 1/ 66.
(3) شرح التجريد في مبحث الإمامة.


ــ[330]ــ


وقال الآمدي: اختلفوا في أن النبي (صلى الله عليه وآله) هل كان متعبدا بالاجتهاد فيما لا نص فيه؟ فقال أحمد بن حنبل، والقاضي أبو يوسف: "إنه كان متعبدا به" وجوز الشافعي في رسالته ذلك من غير قطع، وبه قال بعض أصحاب الشافعي والقاضي عبدالجبار، وأبوالحسين البصري، ثم قال: "والمختار جواز ذلك عقلا ووقوعه سمعا"(1).
وقال فيه أيضا: القائلون بجواز الاجتهاد للنبي (صلى الله عليه وآله) اختلفوا في جواز الخطأ عليه في اجتهاده، فذهب بعض أصحابنا إلى المنع من ذلك، وذهب أكثر أصحابنا، والحنابلة، وأصحاب الحديث، والجبائي، وجماعة من المعتزلة إلى جوازه، لكن بشرط أن لا يقر عليه وهو المختار(2).
وحاصل ما تقدم: أن آية التمتع لا ناسخ لها، وأن تحريم عمر، وموافقة جمع من الصحابة له على رأيه طوعا أو كرها إنما كان اجتهادا في مقابل النص، وقد اعترف بذلك جماعة، وأنه لا دليل على تحريم المتعة غير نهي عمر، إلا أنهم رأوا أن اتباع سنة الخلفاء كاتباع سنة النبي (صلى الله عليه وآله) (3).
وعلى أي فما أجود ما قاله عبدالله بن عمر: "أرسول الله (صلى الله عليه وآله) أحق أن تتبع سنته أم سنة عمر"، وما أحق ما قاله الشيخ محمد عبده في تفسير قوله تعالى: {الطلاق مرتان}(4).


                                                                         *****
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الإحكام في أصول الأحكام: 4 / 222.
(2) نفس المصدر: ص 290.
(3) هامش المنتقى للفقي: 2 / 519.
(4) انظر التعليقة رقم (8) في قسم التعليقات رأي ابن عبده في الطلاق الثلاث.


ــ[331]ــ


14 ـ {ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم إن الله كان على كل شيء شهيدا} (4: 33).
قد اختلفت الآراء في مدلول الآية المباركة:
فمنهم من حمل ذيل الآية المباركة {والذين عقدت أيمانكم} على بيان حكم مستقل عن سابقه، فجعله جملة مستأنفة، وفسر كلمة "نصيبهم" بالنصر، والنصح، والرفادة، والعون، والعقل، والمشورة، وعلى ذلك: فالآية محكمة غير منسوخة، وهذا القول منسوب إلى ابن عباس، ومجاهد، وسعيد بن جبير(1)، ومنهم من جعله معطوفا على ما قبله، وفسر كلمة "نصيبهم" بما يستحقه الوارث من التركة.
ثم إن هؤلاء قد اختلفوا: فذهب بعضهم إلى أن المراد بعقد اليمين في الآية المباركة عقد المؤاخاة، وما يشبهه من العقود التي كانت يتوارث بسببها في الجاهلية، وقد أقر الإسلام ذلك إلى أن نزلت آية المواريث:
{واولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله} (8: 75).
وعلى ذلك فالآية منسوخة(2).
وذهب بعضهم إلى أن المراد بعقد اليمين خصوص عقد ضمان الجريرة وعلى ذلك فان قلنا بما ذهب إليه أكثر علماء أهل السنة من أنه لا إرث بعقد ضمان الجريرة كانت الآية منسوخة أيضا بآية المواريث (3)، وإن قلنا بما ذهب إليه أبوحنيفة وأصحابه من ثبوت الإرث بهذا العقد كانت الآية محكمة غير منسوخة.
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الناسخ والمنسوخ للنحاس: ص 107.
(2) نفس المصدر: ص 109.
(3) تفسير ابن كثير: 1 / 490.


ــ[332]ــ


وقد استدلوا على ذلك بأن آية المواريث لم تنف إرث غير أولي الأرحام، وإنما قدمهم على غيرهم، فلا تنافي بين الآيتين، لتكون آية المواريث ناسخة لهذه الآية(1).
والحق: إن المراد بالآية ما هو ظاهرها الذي يفهم منها، وهو ثبوت الإرث بالمعاقدة، ومع ذلك فلا نسخ لمدلول الآية.
وبيان ذلك: إن سياق الآية يقتضي أن يكون المراد بالنصيب المذكور فيها هو الإرث، وحمله على النصرة وما يشبهها خلاف ظاهرها، بل كاد يكون صريحها.
ثم إن ذكر الطوائف الثلاث في الآية لا يدل علىاشتراكهموتساويهم في الطبقة، فإن الولد يرث أبويه ولا يرث معهأحد من أقرباء الميت من أولي أرحامه فالذي يستفاد من الآية الكريمة أن الموروث هو هذه الطوائف الثلاث، وأما ترتيب الإرث وتقدم بعض الوارث على بعض فلا يستفاد من الآية، وقد استفيد ذلك من الأدلة الأخرى في الكتاب والسنة.
وعلى هذا الذي ذكرناه تكون الآية الكريمة جامعة لجميع الوراث على الإجمال، فالولد يرث ما تركه الوالدان، والأقربون من أولي الأرحام يرث بعضهم بعضا، ومن عقد معه يرث في الجملة تشريكا أو ترتيبا.
وتفصيل ذلك:
إن الإرث من غير جهة الرحم لابد له من تحقق عقد والتزام من العاقد بيمينه وقدرته، وهو تارة يكون من جهة الزواج، فكل من الزوجين يرث صاحبه بسبب عقد الزواج الذي تحقق بينهما، وتارة يكون من جهة عقد البيعة والتبعية ويسمى
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) احكام القرآن للجصاص: 2 / 185.


ــ[333]ــ


ذلك بولاء الإمامة، ولا خلاف في ثبوت ذلك لرسول الله (صلى الله عليه وآله) وقد ورد في عدة روايات من طرق أهل السنة أنه (صلى الله عليه وآله) قال: "أنا وراث من لا وارث له "(1).
ولا إشكال أيضا في ثبوته لأوصياء النبي الكرام (عليهم السلام) فقد ثبت بالأدلة القطعية أنهم بمنزلة نفس الرسول (صلى الله عليه وآله)، وعلى ذلك اتفقت كلمات الإمامية وروايات أهل البيت (عليهم السلام) وتارة يكون من جهة عقد العتق، فيرث المعتق عبده الذي أعتقه بولاء العتق، ولا خلاف في ذلك بين الإمامية، وقال به جمع من غيرهم، وتارة يكون من جهة عقد الضمان ويسمى ذلك "بولاء ضمان الجريرة" وقد اتفقت الإمامية على ثبوت الإرث بسبب هذا الولاء، وذهب إليه أبو حنيفة وأصحابه.
وجملة القول: فدعوى نسخ الآية يتوقف على ثبوتها على أمرين:
1 ـ أن يكون قوله تعالى:
{والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم}(4: 33).
في الآية معطوفا على ما قبله، ولا يكون جملة مستأنفة ليكون المراد من "نصيبهم" النصح والمشورة وما يشبههما.
2 ـ أن يراد بعقد اليمين فيها: خصوص ضمان الجريرة، مع الالتزام بعدم ثبوت الإرث به، أو عقد المؤاخاة وما يشبهه من العقود التي اتفق المسلمون على عدم ثبوت الإرث بها.
أما "الأمر الأول": فلا ريب فيه، وهو الذي يقتضيه سياق الآية.
وأما "الأمر الثاني": فهو ممنوع، لأن ضمان الجريرة أحد مصاديق عقد اليمين،
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سنن أبي داود: كتاب الفرائض، رقم الحديث: 2514، وسنن ابن ماجه: كتاب الديات، رقم الحديث: 2624، ومسند أحمد: مسند الشاميين، رقم الحديث: 16547، راجع المنتقى: 2 / 462.


ــ[334]ــ


ومع ذلك فلم ينسخ حكمه، ودعوى أن المراد بعقد اليمين العقود التي لا توجب التوريث، كالمؤاخاة ونحوها لا دليل على ثبوتها.


*****


15 ـ {يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون}( 4: 43).
فقد ذهب أكثر العلماء إلى أنها منسوخة(1) ولكن وقع الكلام في ناسخها فعن قتادة ومجاهد أنها منسوخة بتحريم الخمر. وحكي هذا القول عن الحسن أيضا(2)، وعن ابن عباس أنها منسوخة بقوله تعالى:
{إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق} ( 5: 6).
وكلا هذين القولين ظاهر الفساد:
أما القول الأول: فلأن الآية الكريمة لا دلالة فيها على جواز شرب الخمر بوجه، وإن فرض أن تحريم الخمر لم يكن في زمان نزول الآية، فالآية لا تعرض لها لحكم الخمر رخصة أو تحريما. على أن هذا مجرد فرض لا وقوع له، ففي رواية ابن عمر: نزلت في الخمر ثلاث آيات فأول شيء نزل:
{يسئلونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما} (2: 219).
فقيل: حرمت الخمر، فقيل يا رسول الله دعنا ننتفع بها، كما قال الله عز وجل،
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الناسخ والمنسوخ للنحاس: ص 109.
(2) أحكام القرآن للجصاص: 2 / 201.


ــ[335]ــ


فسكت عنهم، ثم نزلت هذه الآية(1):
{لا تقربوا الصلاة وانتم سكارى} (4: 43).
وروى نحو ذلك أبو هريرة(2). وروى أبو ميسرة، عن عمر بن الخطاب قال: "لما نزل تحريم الخمر، قال: اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا، فنزلت هذه الآية التي في سورة البقرة:
{يسئلونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير}(2 : 19).
قال: فدعي عمر فقرئت عليه، فقال: اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا، فنزلت الآية التي في سورة النساء:
{يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى}(4: 43).
فكان منادي رسول الله (صلى الله عليه وآله) إذا أقام الصلاة نادى: لا يقربن الصلاة سكران، فدعي عمر فقرئت عليه فقال: اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا، فنزلت الآية التي في المائدة فدعي عمر فقرئت عليه، فلما بلغ:
{فهل أنم منتهون}(5: 91).
قال: فقال عمر: "انتهينا انتهينا"(3). وأخرج النسائي أيضا هذا الحديث باختلاف يسير في ألفاظه(4).
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) مسند الطيالسي: 8 / 264.
(2) مسند احمد: 2 / 351، باقي مسند المكثرين رقم الحديث: 8266.
(3) نفس المصدر: 1 / 53، مسند العشرة المبشرين بالجنة، رقم الحديث: 355، وسنن الترمذي: كتاب تفسير القرآن، رقم الحديث: 2975.
(4) سنن النسائي: 2 / 323، كتاب الأشربة، باب تحريم الخمر، رقم الحديث: 5445.


ــ[336]ــ


وأما القول الثاني: فلأن وجوب الوضوء عند القيام إلى الصلاة لا مساس له بمضمون الآية الكريمة ليكون ناسخا لها.
ولعل القائل بالنسخ يتوهم فيقول: إن النهي عن القرب إلى الصلاة حالة السكر يقتضي أن يراد بالسكر ما لا يبلغ بالشخص إلى حد الغفلة عن التكاليف وامتثالها، وعدم الالتفات إليها. فإن الذي يصل به السكر إلى هذا الحد يكون تكليفه قبيحا، وعلى ذلك فإذا فرضنا أن شخصا شرب الخمر، وحصل له هذا المقدار من السكر فهو مكلف بالصلاة بالإجماع، وذلك يستلزم نسخ مفاد الآية.
ولكن هذا القول توهم فاسد، فان المراد بالسكر بقرينة قوله تعالى:
{حتى تعلموا ما تقولون}(4: 43).
هي المرتبة التي يفقد السكران معها الشعور، وهذا النهي قد يحمل على الحرمة التكليفية، ولا ينافيها فقد الشعور، لأن إقامة الصلاة في ذلك الحال، وإن كانت غير مقدورة إلا أن فقده لشعوره هذا كان باختياره، والممتنع بالاختيار لا ينافي صحة العقاب عليه عقلا، فيصح تعلق النهي بها قبل أن يتناول المسكر باختياره، ومثل هذا كثير في الشريعة الإسلامية.
وقد يراد من النهي الإرشاد إلى فساد الصلاة في هذا الحال كما هو الظاهر من مثل هذا التركيب، والأمر على هذا الاحتمال واضح جدا، وعلى كل فلا سبب يوجب الالتزام بالنسخ في الآية.


*****


16 ـ {إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق أو جاؤكم حصرت صدورهم أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم ولو شآء الله لسلطهم عليكم فلقاتلوكم


ــ[337]ــ


فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلا}(4: 90).
فقد ذكروا أن الآية منسوخة بالأمر بنبذ ميثاق المشركين، وبالأمر بقتالهم سواء أكانوا اعتزلوا المسلمين أم لم يعتزلوهم، فيكون في الآية موردان للنسخ.
والجواب:
إن الآية الكريمة نزلت في شأن المنافقين الذين تولوا وكفروا بعد إسلامهم في الظاهر، والدليل على ذلك سياق الآية الكريمة، فقد قال الله تعالى:
{فما لكم في المنافقين فئتين والله اركسهم بما كسبوا أتريدون أن تهدوا من أضل الله ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا 4: 88. ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا في سبيل الله فإن تولوا فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم ولا تتخذوا منهم وليا ولا نصيرا: 89. إلا الذين يصلون: 90}.
وعلى ذلك فالحكم في الآية وارد في المرتدين الذين كانوا كفارا ثم أسلموا ثم كفروا بعد إسلامهم، والحكم فيهم بمقتضى الآية هو القتل إلا في موردين:
1 ـ وصولهم إلى قوم بينهم وبين المسلمين معاهدة، واستجارتهم بهم فيجري عليهم حكم القوم الذين استجاروا بهم بمقتضى المعاهدة، ولكن هذا الحكم مشروط ببقاء المعاهدة، فإذا ألغيت بينهم وبين المسلمين لم يبق للحكم موضوع وقد أوضحنا في أول هذا البحث أن ارتفاع الحكم بسبب ارتفاع موضوعه ليس من النسخ في شيء، وقد ألغيت المعاهدة بين المسلمين والمشركين في سورة التوبة وأمهلوا أربعة


ــ[338]ــ


أشهر ليتخيروا إما الإسلام، وإما الخروج عن بلاد المسلمين، وعلى ذلك فلم يبق موضوع للاستجارة التي ذكرتها الآية.
2 ـ مجيئهم إلى المسلمين، وقد حصرت صدورهم عن القتال مع اعتزالهم، وإلقائهم السلم إلى المسلمين بعد الردة، والمراد بإلقاء السلم إلقاء السلم إظهار الإسلام، والإقرار بالشهادتين، ويشهد لهذا قوله تعالى:
{ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدنيا}(4 : 94).
فالآية دالة على قبول المرتد الملي إذا أظهر التوبة والإسلام، وانه لا يقتل بعد التوبة، وقد استقر على هذا مذهب الإمامية: ولم ترد في القرآن آية تدل على وجوب قتل المرتد على الإطلاق، لتكون ناسخة لذلك.
أما إذا أراد القائل بالنسخ: أن يتمسك في نسخ الآية بما دل على قتال المشرك والكافر، فمن الواضح أن ذلك مشروط ببقاء موضوعه، على ما هي القاعدة المتبعة في كل قضية حقيقية في الأحكام الشرعية وغيرها. نعم ورد الأمر بقتل المرتد على الإطلاق في بعض روايات أهل السنة، فقد روى البخاري، وأحمد، والترمذي، والنسائي، وأبو داود السجستاني، وابن ماجة، عن ابن عباس، عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه قال: "من بدل دينه فاقتلوه"(1). إلا أنه لا خلاف بين المسلمين في أن هذا الحكم مقيد بعدم التوبة، وإن وقع الخلاف بينهم في المدة التي يستتاب فيها، وفي
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) صحيح البخاري: كتاب الجهاد والسير، رقم الحديث: 2794، و6411. وسنن الترمذي: كتاب الحدود، رقم الحديث: 1378، وسنن النسائي: كتاب تحريم الدم، رقم الحديث: 3991، و3992، 3993 و3994 و3995 و3996 و3997، وسنن أبي داود: كتاب الحدود، رقم الحديث: 3787. وسنن ابن ماجه: كتاب الحدود، رقم الحديث 2526. ومسند أحمد: مسند بني هاشم، رقم الحديث: 1775 و2420 و2421 و2813 و21007 راجع المنتقى: 2 / 745.


ــ[339]ــ


وجوب الاستتابة واستحبابها. فالمشهور بين الإمامية أنه واجب، وأنه لا يحد بمدة مخصوصة، بل يستتاب مدة يمكن منه الرجوع فيها إلى الإسلام، وقيل يستتاب ثلاثة أيام، ونسب ذلك إلى بعض الإمامية، واختاره كثير من علماء أهل السنة، وذهب أبوحنيفة، وأبو يوسف إلى استحباب الإمهال ثلاثة أيام. نعم ذهب علي بن أبي بكر المرغيناني إلى وجوب القتل من غير إمهال، ونسب ابن الهمام إلى الشافعي، وابن المنذر أنهما قالا في المرتد: "إن تاب في الحال وإلا قتل"(1).
وعلى كل فلا إشكال في سقوط حكم القتل بالتوبة، كما صرح به في الروايات المأثورة عن الطريقين، وبعد ذلك فلا تكون الآية منسوخة. 


*****


17 ـ {فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين} ( 5: 42).
وقد اختلفت الأقوال في هذه الآية الكريمة، فقيل: إنها محكمة لم تنسخ وقد أجمعت الشيعة الاثنى عشرية على ذلك، فالحاكم مخير - حين يتحاكم إليه الكتابيون - بين أن يحكم بينهم بمقتضى شريعة الإسلام، وبين أن يعرض عنهم ويتركهم وما التزموا به في دينهم.
وقد روى الشيخ الطوسي بسند صحيح عن أبي جعفر(عليه السلام) قال:
"إن الحاكم إذا أتاه أهل التوراة، وأهل الإنجيل يتحاكمون إليه كان ذلك إليه، إن شاء حكم بينهم، وإن شاء ترك" (2).
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) فتح القدير: 4 / 386.
(2) الوسائل: 27 / 296، باب 27، رقم الحديث: 33786.


ــ[340]ــ


وإلى هذا القول ذهب من علماء أهل السنة الشعبي، وإبراهيم النخعي، وعطاء، ومالك (1) وذهب جمع منهم إلى أن الآية المباركة منسوخة بقوله تعالى بعد ذلك:
{فاحكم بينهم بما انزل الله ولا تتبع أهواءهم} (5: 48).
وروي عن مجاهد أنه ذهب إلى أن آية التخيير ناسخة للآية الثانية.
والتحقيق: عدم النسخ في الآية، فان الأمر بالحكم بين أهل الكتاب بما أنزل الله في قوله تعالى: {فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم} مقيد بما إذا أراد الحاكم أن يحكم بينهم، والقرينة على التقييد هي الآية الأولى. ويدل على ذلك أيضا ـ مضافا إلى شهادة سياق الآيات بذلك ـ قوله تعالى في ذيل الآية الأولى: {وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط} فإنه يدل على أن وجوب الحكم بينهم بالقسط معلق على إرادة الحكم بينهم، وللحاكم أن يعرض عنهم فينتفي وجوب الحكم بانتفاء موضوعه. ومما يدل على عدم النسخ في الآية المزبورة الروايات التي دلت على أن سورة المائدة نزلت على رسول الله (صلى الله عليه وآله) جملة واحدة، وهو في أثناء مسيره.
فقد روى عيسى بن عبدالله، عن أبيه، عن جده، عن علي (عليه السلام) "إن سورة المائدة كانت من آخر ما نزل على رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأنها نزلت وهو على بغلته الشهباء، وثقل عليه الوحي حتى وقعت"(2).
وروت أسماء بنت يزيد، قالت:
"إني لآخذة بزمام العضباء ناقة رسول الله إذ أنزلت عليه المائدة كلها، وكادت من ثقلها تدق من عضد الناقة"(3).
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الناسخ والمنسوخ للنحاس: ص 130، وفي أحكام القرآن للجصاص: 2/ 434 نسبة هذا القول إلى الحسن أيضا.
(2) تفسير البرهان: 1 / 263.
(3) تفسير ابن كثير: 2 / 2.


ــ[341]ــ


وروت أيضا بإسناد آخر، قالت:
"نزلت سورة المائدة على النبي (صلى الله عليه وآله) جميعا إن كادت لتكسر الناقة"(1).
وروى جبير بن نفير قال:
"حججت فدخلت على عائشة، فقالت لي: يا جبير تقرأ المائدة؟ فقلت: نعم، فقالت: أما انها آخر سورة نزلت، فما وجدتم فيها من حلال فاستحلوه، وما وجدتم فيها من حرام فحرموه "(2).
وروى أبوعبيد، عن ضمرة بن حبيب، وعطية بن قيس، قالا:
"قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) المائدة من آخر القرآن تنزيلا، فأحلوا حلالها، وحرموا حرامها"(3).
وغير ذلك من الروايات الدالة على أن سورة المائدة نزلت جملة واحدة، وهي آخر ما نزل من القران، ومع هذه الروايات المستفيضة كيف يمكن دعوى أن تكون إحدى آياتها ناسخة لآية أخرى منها! وهل ذلك إلا من النسخ قبل حضور وقت العمل؟ ونتيجة ذلك أن يكون التشريع في الآية المنسوخة لغوا لا فائدة فيه، على أن بعض الروايات المتقدمة دلت على أن هذه السورة هي آخر ما نزل من القرآن، وإن
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) مسند احمد: 2 / 458، مسند القبائل، رقم الحديث: 2631. وفي تفسير الشوكاني: 2 / 2: وأخرج عبد بن حميد وابن جرير، ومحمد بن نصر في كتاب الصلاة، والطبراني، وأبو نعيم في الدلائل، والبيهقي في شعب الايمان عن أسماء بنت يزيد نحوه.
(2) مسند احمد: باقي مسند الانصار، رقم الحديث: 24371. وفي تفسير الشوكاني: 2 / 2 أخرجه أحمد، والنسائي، وابن المنذر، والحاكم
وصححه، وابن مردويه والبيهقي في سننه.
(3) نفس المصدر.


ــ[342]ــ


بعض الروايات المتقدمة دلت على أن هذه السورة هي آخر ما نزل من القرآن، وإن شيئا من اياتها لم ينسخ.


*****


18 ـ {ياأيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم} (5: 106).
وقد ذهبت الشيعة الإمامية إلى أن الآية محكمة، فتجوز شهادة أهل الكتاب على المسلمين في السفر إذا كانت الشهادة على الوصية، وإليه ذهب جمع من الصحابة والتابعين، منهم: عبدالله بن قيس، وابن عباس، وشريح، وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير، وعبيدة، ومحمد بن سيرين، والشعبي، ويحيى بن يعمر، والسدي وقال به من الفقهاء: سفيان الثوري ومال إليه أبوعبيد لكثرة من قال به، وذهب زيد بن أسلم، ومالك بن أنس، والشافعي، وأبو حنيفة: إلى أن الآية منسوخة، وأنه لا تجوز شهادة كافر بحال (1).
والتحقيق بطلان القول بالنسخ في الآية المباركة، والدليل على ذلك وجوه:
1 ـ الروايات المستفيضة من الطريقين الدالة على نفوذ شهادة أهل الكتاب في الوصية، إذا تعذرت شهادة المسلم، فمن هذه الروايات:
ما رواه الكليني، عن هشام بن الحكم، عن أبي عبدالله (عليه السلام):
"في قول الله تعالى: {أو آخران من غيركم}، قال: إذا كان الرجل في أرض غربة، لا يوجد فيها مسلم جازت شهادة من ليس بمسلم على الوصية"(2).
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الناسخ والمنسوخ للنحاس: ص 133، 134.
(2) الكافي: 7 / 4، باب الإشهاد على الوصية، رقم الحديث: 3 و 7 / 398، رقم الحديث: 6.


ــ[343]ــ


وما رواه الشعبي: "أن رجلا من المسلمين حضرته الوفاة بـ (دقوقا) هذه، ولم يجد أحدا من المسلمين يشهده على وصيته، فأشهد رجلين من أهل الكتاب، فقدما الكوفة فأتيا الأشعري – يعني أبا موسى – فأخبراه، وقدما بتركته ووصيته، فقال الأشعري: هذا أمر لم يكن بعد الذي كان في عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) فأحلفهما بعد العصر ما خانا، ولا كذبا، ولا بدلا، ولا كتما، ولا غيرا، وانها لوصية الرجل وتركته، فأمضى شهادتهما"(1).
2 ـ الروايات المتقدمة في أن سورة المائدة نزلت جملة واحدة، وأنها كانت آخر ما نزل، وليس فيها منسوخ.
3 ـ إن النسخ لا يتم من غير أن يدل عليه دليل، والوجوه التي تمسك بها القائلون بالنسخ لا تصلح لذلك.
فمن هذه الوجوه: أن الله سبحانه اعتبر في الشاهد أن يكون عدلا مرضيا، فقال تعالى:
{ممن ترضون من الشهداء 2: 282. واشهدوا ذوي عدل منكم}(2:65).
والكافر لا يكون عدلا ولا مرضيا، فلا بد وأن يكون الحكم بجواز شهادته منسوخا.
والجواب:
أولا: إن الآية الأولى وردت في الشهادة على الدين، والآية الثانية وردت في الشهادة على الطلاق، فلا يكون لهما دلالة على اعتبار العدالة في شهود الوصية.
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سنن أبي داود: كتاب الأقضية، رقم الحديث: 3128، وفي المنتقى: 2 / 942، روى الدارقطني بمعناه.


ــ[344]ــ


ثانيا: إن هاتين الآيتين لو سلم أنهما مطلقتان كانت الآية المتقدمة مقيدة لهما، والمطلق لا يكون ناسخا لدليل المقيد، ولا سيما إذا تأخر المقيد عنه في الزمان، كما في المقام.
ومن هذه الوجوه: أن الإجماع قد انعقد على عدم قبول شهادة الفاسق، والكافر فاسق فلا تقبل شهادته.
والجواب:
إنه لا معنى لدعوى الإجماع هنا بعد ذهاب أكثر العلماء إلى الجواز، وقد عرفت ذلك آنفا، ولا ملازمة عقلا بين رد شهادة المسلم الفاسق، ورد شهادة الكافر إذا كان عادلا في دينه.
ومن هذه الوجوه: أن شهادة الكافر لا تجوز على المسلمين في غير الوصية وقد اختلف في قبولها في الوصية، فيرد ما اختلف فيه إلى ما اجمع عليه.
والجواب:
إن هذا الوجه في منتهى الغرابة بعد أن عرفت قيام الدليل على قبول الشهادة في باب الوصية بلا معارض، وليت هذا المستدل عكس الأمر. وقال: إن شهادة الكافر على الوصية كانت مقبولة في زمان النبي (صلى الله عليه وآله) بالإجماع، وقد اختلف فيه بعد زمان النبي (صلى الله عليه وآله) فيرد ما اختلف فيه إلى ما اجمع عليه.
وجملة القول: لا سند لدعوى النسخ في الآية غير تقليد جماعة من الفقهاء المتأخرين. وكيف يصح أن ترفع اليد عن حكم ورد في القرآن لفتوى أحد من الناس على خلافه؟ ومن الغريب قول الحسن والزهري: إن المراد بقوله تعالى:
{أو آخران من غيركم}(5: 106).


ــ[345]ــ


آخران من غير عشيرتكم، فلا دلالة في الآية على قبول شهادة الكفار(1).
ويرده - مضافا إلى الروايات التي وردت في تفسير الآية-: أنه مخالف لظاهر القرآن أيضا، لأن الخطاب في الآية للمؤمنين، فلا بد وأن يراد من قوله تعالى: {غيركم} غير المؤمنين، وهم الكفار.
نعم: إطلاق الآية الكريمة يدل على قبول شهادة الكافر في الوصية وإن لم يكن الكافر من الكتابيين، سواء أأمكنت إقامة الشهود من المؤمنين أم لم تمكن، ولكن الروايات المستفيضة قيدت ذلك بشهادة الكتابي، وبما إذا لم يمكن تحصيل الشهود من المؤمنين، وهذا من جملة موارد تقييد إطلاق الكتاب والسنة.


*****


19 ـ {وهو الذي انشأ جنات معروشات وغير معروشات والنخل والزرع مختلفا أكله والزيتون والرمان متشابها وغير متشابه كلوا من ثمره إذا أثمر وأتوا حقه يوم حصاده ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين} (6 : 141).
فقد ذهب أكثر علماء أهل السنة إلى أن الآية منسوخة، ولهم في بيان نسخها وجوه:
1 ـ إنها واردة في الزكاة، وأن وجوبها قد نسخ في غير الحنطة، والشعير، والتمر، والزبيب على ما هو الأشهر، بل ولا قائل من الصحابة والتابعين بوجوبها في كل ما أنبتت الأرض، نعم ذهب أبو حنيفة وزفر إلى وجوبها في غير الحطب والحشيش، والقصب (2).
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الناسخ والمنسوخ للنحاس: ص 134.
(2) أحكام القرآن للجصاص: 3 / 9.


ــ[346]ــ


2 ـ إن حكم الآية قد نسخ بالسنة: العشر ونصف العشر، وذهب إلى ذلك السدي، وأنس بن مالك، ونسب ذلك إلى ابن عباس، ومحمد بن الحنفية(1).
3 ـ إن مورد الآية غير الزكاة، وقد نسخ وجوب إعطاء شيء من المال بوجوب الزكاة، ذهب إلى ذلك عكرمة، والضحاك، ونسب ذلك إلى سعيد بن جبير أيضا(2).
والحق: بطلان القول بالنسخ في مدلول الآية الكريمة، والدليل على ذلك وجوه:
الأول: الروايات المستفيضة عن أهل البيت (عليهم السلام) الدالة عن أن الحق المذكور في الآية هو غير الزكاة، وهو باق ولم ينسخ.
منها: ما رواه الشيخ الكليني بإسناده، عن معاوية بن الحجاج، قال:
"سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول في الزرع حقان: حق تؤخذ به، وحق تعطيه، قلت: وما الذي أؤخذ به وما الذي أعطيه؟ قال أما الذي تؤخذ به فالعشر ونصف العشر، وأما الذي تعطيه فقول الله عز وجل: {وآتوا حقه يوم حصاده}(3).
وقد روى ابن مردويه بإسناده، عن أبي سعيد الخدري، عن النبي (صلى الله عليه وآله) في قول الله تعالى:
{وآتوا حقه يوم حصاده}، قال: "ما سقط من السنبل"(4).
الثاني: إن سورة الأنعام نزلت بمكة جملة واحدة، وقد صرحت بذلك روايات كثيرة.
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الناسخ والمنسوخ للنحاس: ص 140.
(2) نفس المصدر.
(3) الكافي: 3 / 564، رقم الحديث: 1 راجع تفسير البرهان: 1 / 338.
(4) تفسير ابن كثير: 2 / 182.


ــ[347]ــ


منها: ما رواه الشيخ الكليني، بإسناده عن الحسن بن علي بن أبي حمزة، قال:
"قال أبو عبدالله (عليه السلام) إن سورة الأنعام نزلت جملة، شيعها سبعون ألف ملك حتى نزلت على محمد (صلى الله عليه وآله) فعظموها وبجلوها، فإن اسم الله عز وجل فيها في سبعين موضعا، ولو يعلم الناس ما في قراءتها ما تركوها"(1).
ومنها: ما روي عن ابن عباس قال:
"نزلت سورة الأنعام بمكة ليلا جملة واحدة، حولها سبعون ألف ملك يجأرون حولها بالتسبيح"(2).
ومما لا ريب فيه أن وجوب الزكاة إنما نزل في المدينة، فكيف يمكن أن يقال: إن الآية المذكورة نزلت في الزكاة !. وحكى الزجاج أن هذه الآية قيل فيها: إنها نزلت بالمدينة(3)، وهذا القول مخالف للروايات المستفيضة المتقدمة، وهو مع ذلك قول بغير علم.
الثالث: إن الإيتاء الذي أمرت به الآية الكريمة قد قيد بيوم الحصاد فلا بد أن يكون هذا الحق غير الزكاة، لأنها تؤدي بعد التنقية والكيل، ومما يشهد على أن هذا الحق غير الزكاة أنه قد ورد في عدة من الروايات المأثورة عن أهل البيت (عليهم السلام) النهي عن حصاد الليل، معللا في بعضها أنه يحرم منه القانع والمعتر(4).
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) تفسير البرهان: 1 / 313.
(2) رواه ابوعبيد، وابن المنذر، والطبراني، وابن مردويه، راجع تفسير الشوكاني: 2 / 91.
(3) تفسير القرطبي: 7 / 99.
(4) الكافي: 3 / 565، رقم الحديث: 3، و4 / 499، رقم الحديث: 2، و4/ 500، رقم الحديث 6، التهذيب: 4 / 106، باب 1، رقم الحديث: 38. راجع تفسير البرهان: 1 / 338.


ــ[348]ــ


وروى جعفر بن محمد بن إبراهيم، بإسناده عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جده:
"ان رسول الله (صلى الله عليه وآله) نهى عن الجداد بالليل، والحصاد بالليل، قال جعفر: أراه من أجل المساكين"(1).
وأما ما قيل في توجيه ذلك: إن يوم الحصاد يمكن أن يكون ظرفا لتعلق الحق بالمال لا للإيتاء فيبطله:
1 ـ انه خلاف الظاهر الذي يفهمه العرف من الآية، بل كاد يكون خلاف صريحها، فإن الظرف إنما يتعلق بما تدل عليه مادة الفعل، ولا يتعلق بما تدل عليه هيئته، فإذا قيل أكرم زيدا يوم الجمعة كان معناه أن يوم الجمعة ظرف لتحقق الإكرام، لا أنه ظرف لوجوبه.
2 ـ ان الزكاة لا تجب يوم الحصاد، بل يتعلق الحق بالمال إذا انعقد الحب، وصدق عليه اسم الحنطة والشعير، وعلى ذلك فذكر يوم الحصاد في الآية قرينة قطعية على أن هذا الحق هو غير الزكاة، ومما يؤيد أن هذا الحق هو غير الزكاة: أنه تعالى نهي في هذه الآية عن الإسراف وذلك لا يناسب الزكاة المقدرة بالعشر ونصف العشر، وإذا اتضح أن الحق الذي امرت الآية الكريمة بايتائه هو غير الزكاة الواجبة لم تكن الزكاة ناسخة له.
وجملة القول: أن دعوى النسخ في الآية المباركة تتوقف على إثبات وجوب حق آخر في الزروع حتى ينسخ بوجوب الزكاة، ولا يستطيع القائل بالنسخ إثبات ذلك، لأن ظهور الأمر في الوجوب، وظهوره في الدوام والاستمرار لا يمكن الاحتفاظ بهما
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سنن البيهقي: 4 / 133.


ــ[349]ــ


جميعا في الآية، وذلك للعلم بأنه لا يجب حق آخر بعد الزكاة فلا بد - إذن - من التصرف في أحد الظهورين، إما برفع اليد عن الظهور في الوجوب، وإبقائه على الدوام والاستمرار، فيلتزم - حينئذ - بثبوت حق آخر استحبابي باق إلى الأبد، وإما برفع اليد عن الدوام والاستمرار، وإبقائه على الظهور في الوجوب فيلتزم بالنسخ، ولا مرجح للثاني على الأول، بل الترجيح للأول والدليل على ذلك أمران:
1 ـ الروايات المستفيضة عن الأئمة المعصومين (عليهم السلام) ببقاء هذا الحق واستحبابه، "وقد أشرنا إلى هذه الروايات آنفا".
2 ـ ان هذا الحق لو كان واجبا لشاع بين الصحابة والتابعين، ولم ينحصر القول به بعكرمة، والضحاك، أو بواحد واثنين غيرهما.
وحاصل ما تقدم: أن الحري بالقبول هو القول بثبوت حق آخر ندبي في الثمار والزروع، وهذا هو مذهب الشيعة الإمامية، وعليه فلا نسخ لمدلول الآية الكريمة.


*****


20 ـ {قل لا أجد فيما أوحي إلى محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن ربك غفور رحيم} (6 : 145).
قال جماعة: إن الآية منسوخة بتحريم النبي (صلى الله عليه وآله) بعد ذلك لبعض الأشياء غير المذكورة في الآية.
والحق: عدم النسخ لأن مفاد الآية هو الإخبار عن عدم وجدان محرم غير ما ذكر فيها، وهو دليل على عدم الوجود حين نزولها. وعليه فلا معنى لدعوى النسخ


ــ[350]ــ


فيها، فإن النسخ لا يقع في الجملة الخبرية، وإذن فلا بد من الالتزام بأن الحصر في الآية إضافي، فإن المشركين حرموا على أنفسهم أشياء، وهي ليست محرمة في الشريعة الإلهية، وهذا يظهر من سياق الآيات التي قبل هذه الآية، أو الالتزام بأن الحصر حقيقي، وأن المحرمات حين نزول هذه الآية كانت محصورة بما ذكر فيها، فإن هذه الآية مكية وقد حرمت بعد نزولها أشياء أخرى، وكانت الأحكام تنزل على التدريج.
ومن الظاهر أن تحريم شيء بعد شيء لا يكون من النسخ في شيء، وكون الحصر حقيقيا أظهر الاحتمالين وأقربهما إلى الفهم العرفي، ومع ذلك فلا نسخ في مدلول الآية ـ ولو كان 


*****


الحصر إضافيا ـ كما عرفت.
21 ـ {يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار 8: 15. ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير: 16}.
فقد ذهب بعضهم إلى أن هذا الحكم منسوخ بقوله تعالى:
{الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين} (66:8).
فان المسلمين إذا قل عددهم عن نصف عدد الكفار جاز لهم ترك القتال، والفرار من الزحف. ومن القائلين بهذا القول: عطاء بن أبي رياح (1).
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الناسخ والمنسوخ للنحاس: ص 154، وتفسير الطبري: 9 / 135.


ــ[351]ــ


والجواب عن ذلك:
أن تقييد إطلاق هذه الآية بآية التخفيف المذكورة مؤكد لبقاء حكمها ومعنى ذلك: أن الفرار من الزحف محرم في الشريعة الإسلامية إذا لم يكن عدد المسلمين أقل من نصف عدد الكفار، وأما إذا كان المسلمون أقل عددا من ذلك فلا يحرم عليهم الفرار، وهذا ليس من النسخ في شيء.
وروي عن عمرو بن عمر، وأبي هريرة، وأبي سعيد، وأبي نضرة، ونافع مولى ابن عمر، والحسن البصري، وعكرمة، وقتادة، وزيد بن أبي حبيب، والضحاك: أن الحكم مخصوص بأهل بدر، ولا يحرم الفرار من الزحف على غيرهم. وبه قال أبو حنيفة (1).
وهذا القول أيضا باطل:
فإن مورد الآية وإن كان يوم بدر،إلا أن ذلك لا يوجب اختصاص الحكم به، بعد أن كان اللفظ عاما، وكان الخطاب شاملا لجميع المسلمين ولا سيما إذا كان نزول الآية المباركة بعد انقضاء الحرب من يوم بدر(2).
وذهب ابن عباس (3) وجميع الشيعة الإمامية، وكثير من علماء أهل السنة إلى أن الآية محكمة، وحكمها مستمر إلى يوم القيامة، وهذا هو القول الصحيح وقد عرفت الدليل عليه، والروايات في ذلك متظافرة من الطريقين.
روى الكليني بإسناده عن محمد، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال:
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) تفسير الشوكاني: 2/ 280.
(2) نفس المصدر.
(3) الناسخ والمنسوخ للنحاس: 154، وتفسير الطبري: 9 / 135.


ــ[352]ــ


"سمعته يقول الكبائر سبع: قتل المؤمن متعمدا، وقذف المحصنة، والفرار من الزحف، والتعرب بعد الهجرة، وأكل مال اليتيم ظلما، وأكل الربا بعد البينة، وكل ما أوجب الله عليه النار"(1).
وروى أبو هريرة قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله):
"واجتنبوا السبع الموبقات، قالوا: يا رسول الله وما هن؟ قال (صلى الله عليه وآله): الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات" (2).


*****


22 ـ {وإن جنحوا للسلم فاجنح له} (8: 61).
فذهب ابن عباس، ومجاهد، وزيد بن أسلم، وعطاء، وعكرمة، والحسن وقتادة إلى أنها منسوخة بآية السيف (3).
والحق: انها محكمة غير منسوخة، والدليل على ذلك.
أولا: إن آية السيف خاصة بالمشركين دون غيرهم، "وقد تقدم بيان ذلك"، ومن هنا صالح النبي (صلى الله عليه وآله) نصارى نجران في السنة العاشرة من الهجرة(4). مع أن
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الكافي: 2 / 277، رقم الحديث: 2. الوافي ج 3 باب تفسير الكبائر ص 74.
(2) صحيح البخاري: كتاب الوصايا، رقم الحديث: 2560. وكتاب الحدود، رقم الحديث: 6351، وصحيح مسلم: كتاب الإيمان، رقم الحديث: 129، وسنن النسائي: كتاب الوصايا، رقم الحديث: 3611، وسنن أبي داود: كتاب الوصايا، رقم الحديث: 2490.
(3) تفسير ابن كثير: 2 / 322.
(4) امتاع الأسماع للمقريزي: ص 502.


ــ[353]ــ


سورة براءة نزلت في السنة التاسعة، وعليه فتكون آية السيف مخصصة لعموم الحكم في الآية الكريمة، وليست ناسخة لها.
وثانيا: أن وجوب قتال المشركين، وعدم مسالمتهم مقيد بما إذا كان للمسلمين قوة واستعداد للمقاتلة وأما إذا لم تكن لهم قوة تمكنهم من الاستظهار على عدوهم فلا مانع من المسالمة كما فعل النبي (صلى الله عليه وآله) ذلك مع قريش يوم الحديبية، وقد دل على التقييد قوله تعالى:
{فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم ولن يتركم أعمالكم} (47 : 35).


*****


23 ـ {يا أيها الني حرض المؤمنين على القتال إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون 8: 65. الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين: 66}.
فقد ذكروا أن حكم الآية الأولى قد نسخ بالآية الثانية، وإن الواجب في أول الأمر على المسلمين أن يقاتلوا الكفار، ولو كانوا عشرة أضعافهم ثم خفف الله عن المسلمين فجعل وجوب القتال مشروطا بأن لا يزيد الكفار على ضعف عدد المسلمين.


ــ[354]ــ


والحق: أنه لا نسخ في حكم الآية، فان القول بالنسخ يتوقف على إثبات الفصل بين الآيتين نزولا، وإثبات أن الآية الثانية نزلت بعد مجيء زمان العمل بالآية الأولى، وذلك لئلا يلزم النسخ قبل حضور وقت الحاجة ومعنى ذلك: أن يكون التشريع الأول لغوا، ولا يستطيع القائل بالنسخ إثبات ذلك إلا أن يتمسك بخبر الواحد، "وقد أوضحنا أن النسخ لا يثبت به إجماعا"(1)، أضف إلى ذلك أن سياق الآيتين أصدق شاهد على أنهما نزلتا مرة واحدة.
ونتيجة ذلك: أن حكم مقاتلة العشرين للمائتين استحبابي، ومع ذلك كيف يمكن دعوى النسخ، على أن لازم كلام القائل بالنسخ: ان المجاهدين في بدء أمر الإسلام كانوا أربط جأشا، وأشد شكيمة من المجاهدين بعد ظهور الإسلام، وقوته وكثرة أنصاره، وكيف يمكن القول بأن الضعف طرأ على المؤمنين بعد قوتهم!!
والظاهر أن مدلول الآيتين هو تحريض المؤمنين على القتال، وأن الله يعدهم بالنصر على أعدائهم، ولو كانت الأعداء عشرة أضعاف المسلمين، إلا أنه تعالى لعلمه بضعف قلوب غالب المؤمنين، وعدم تحملهم هذه المقاومة الشديدة لم يوجب ذلك عليهم، ورخص لهم بترك المقاومة إذا زاد العدو على ضعفهم، تخفيفا عنهم، ورأفة بهم، مع وعده تعالى إياهم بالنصر إذا ثبتت أقدامهم في إعلاء كلمة الإسلام.
وقد جعل وجوب المقاومة مشروطا بأن لا يبلغ العدو أكثر من ضعف عدد المسلمين، فان الكفار لجهلهم بالدين، وعدم ركونهم إلى الله تعالى في قتالهم لا يتحملون الشدائد، وإن عقيدة الإيمان في الرجل المؤمن تحدوه إلى الثبات أمام الأخطار، وتدعوه إلى النهضة لإعزاز الإسلام، لأنه يعتقد بنجاحه على كل حال، وربحه في تجارته على كل تقدير، سواء أكان غالبا أم كان مغلوبا، قال الله تعالى:
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) تقدم ذلك في ص 279 من هذا الكتاب.


ــ[355]ــ


{ولا تهنوا في ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون وكان الله عليما حكيما} (4: 104).


*****


24 ـ {إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما} (9: 19).
فعن ابن عباس، والحسن، وعكرمة: أنها منسوخة (1) بقوله تعالى:
{وما كان المؤمنون لينفروا كافة} (9 : 122).
وهذا القول مبني على أن النفر كان واجبا ابتداء على جميع المسلمين مع أن الآية المباركة ظاهرة في أن الوجوب إنما هو على الذين يستنفرون إلى الجهاد، فقد قال تعالى:
{يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحيوة الدنيا من الآخرة فما متاع الحيوة الدنيا في الآخرة إلا قليل 9 : 38. إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم ولا تضروه شيئا والله على كل شيء قدير:39}.
وحاصل الآية أن من أمر بالنفير إلى الجهاد ولم يخرج استحق العذاب بتركه الواجب، ولا صلة لهذا بوجوب الجهاد على جميع المسلمين.
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الناسخ والمنسوخ للنحاس ص 169، ونسبه القرطبي في تفسيره إلى الضحاك أيضاً ج 8 ص 142.


ــ[356]ــ


وبهذا البيان يتضح بطلان دعوى النسخ (1) في قوله تعالى:
{انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله} (9 : 41).
على أنا قد أوضحنا للقارئ - مرارا - أن تخصيص العام ببعض أفراده ليس من النسخ، بل إن قوله تعالى:
{وما كان المؤمنون لينفروا كافة} (9: 122).
بنفسه دليل على عدم النسخ، فانه دل على أن النفر لم يكن واجبا على جميع المسلمين من بداية الأمر، فكيف يكون ناسخا للآية المذكورة.


*****


25 ـ {عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين 9 : 43. لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم والله عليم بالمتقين: 44. إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله: 45}
فعن ابن عباس، والحسن، وعكرمة، وقتادة: أن هذه الآيات منسوخة(2) بقوله تعالى:
{فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم} (24 : 62).
والحق: ان الآيات الثلاث لا نسخ فيها، لأن صريحها ان المنع من الاستيذان وعتاب النبي (صلى الله عليه وآله) على إذنه إنما هو في مورد عدم تميز الصادق من الكاذب وقد بين سبحانه وتعالى أن غير المؤمنين كانوا يستأذنون النبي (صلى الله عليه وآله) في البقاء فرارا من
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) نسبها القرطبي في تفسيره إلى قائل ولم يسمه: 8 / 150، ونسبها الطبرسي في مجمع البيان إلى السدي: 3/ 33.
(2) الناسخ والمنسوخ للنحاس: ص 170.


ــ[357]ــ


الجهاد بين يديه، فأمره بأن لا يأذن لأحد إذا لم تبين الحال، أما إذا تبين الحال فقد أجاز الله المؤمنين أن يستأذنوا النبي (صلى الله عليه وآله) في بعض شأنهم، وأجاز للنبي (صلى الله عليه وآله) أن يأذن لمن شاء منهم، وإذن فلا منافاة بين الآيتين لتكون إحداهما ناسخة للأخرى.


*****


26 ـ {ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه}(9: 120).
فعن ابن زيد: انها منسوخة(1) بقوله تعالى:
{وما كان المؤمنون لينفروا كافة} (9: 122).
والحق: أنه لا نسخ فيها، فان الآية الثانية قرينة متصلة بالآية الأولى، وحاصل المراد منهما أن وجوب النفر إنما هو على البعض من المسلمين على نحو الكفاية، فلا تكون ناسخة، نعم قد يجب النفير إلى الجهاد على جميع المسلمين إذا اقتضته ضرورة وقتية، أو طلبه الولي العام الشرعي، أو لما سوى ذلك من الطوارئ، وهذا الوجوب هو غير وجوب الجهاد كفائيا الذي ثبت بأصل الشرع على المسلمين بذاته، وكلا الوجوبين باق، ولم ينسخ.


*****


27 ـ {واتبع ما يوحى إليك واصبر حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين}، (10: 109).
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الناسخ والمنسوخ للنحاس: 181 ونسب القرطبي القول بالنسخ فيها إلى مجاهد أيضا: 8/ 392.


ــ[358]ــ


فعن ابن زيد: أن هذه الآية منسوخة بالأمر بالجهاد، والغلظة على الكفار(1) وبطلان هذا القول يظهر مما قدمناه في إبطال دعوى النسخ في الآية الأولى من الآيات التي نبحث عن نسخها، فلا حاجة إلى الاعادة أضف إلى ذلك أنه لا دلالة على أن المراد من الصبر في هذه الآية هو الصبر على الكفار، نعم الصبر عليهم يشمله إطلاق الآية، وعليه فلا وجه لدعوى النسخ فيها.


*****


28 ـ {وإن الساعة لآتية فاصفح الصفح الجميل}(15 : 85).
فعن ابن عباس، وسعيد، وقتادة: انها منسوخة بآية السيف(2).
وغير خفي أن الصفح المأمور به في الآية المباركة هو الصفح عن الأذى الذي كان يصل من المشركين إلى النبي (صلى الله عليه وآله) على تبليغه شريعة ربه، ولا علاقة له بالقتال، ويشهد لهذا قوله تعالى بعيد ذلك.
{فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين 15 : 94. إنا كفيناك المستهزئين : 95}.
وحاصل الآية: ان الله سبحانه يحرض النبي (صلى الله عليه وآله) على المصابرة في تبليغ أوامره، ونشر أحكامه، وأن لايلتفت إلى أذى المشركين واستهزائهم، ولا علاقة لذلك بحكم القتال الذي وجب بعد ما قويت شوكة الإسلام، وظهرت حجته، نعم إن النبي الأكرم لم يؤمر بالجهاد في بادئ الأمر، لأنه لم يكن قادرا على ذلك حسب ما تقتضيه الظروف من غير طريق الإعجاز، وخرق نواميس الطبيعة، ولما أصبح قادرا على ذلك، وكثر المسلمون، وقويت شوكتهم، وتمت عِدتهم وعُدتهم أمر
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الناسخ والمنسوخ للنحاس: ص 178.
(2) نفس المصدر: ص 180.


ــ[359]ــ


بالجهاد، وقد أسلفنا أن تشريع الأحكام الإسلامية كان على التدريج وهذا ليس من نسخ الحكم الثابت بالكتاب في شيء.


*****


29 ـ {ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا} (16: 67).
فعن قتادة، وسعيد بن جبير، والشعبي، ومجاهد، وإبراهيم، وأبي رزين: أن هذه الآية منسوخة بتحريم الخمر(1).
والحق: أن الآية محكمة، فإن القول بالنسخ فيها يتوقف على إثبات أمرين:
1 ـ أن يراد بلفظ "سكرا" الخمر والشراب المسكر، والقائل بالنسخ لا يستطيع إثبات ذلك، فان أحد معانيه في اللغة الخل، وبذلك فسره علي بن ابراهيم (2)، وعلى هذا المعنى يكون المراد بالرزق الحسن الطعام اللذيذ من الدبس وغيره.
2 ـ أن تدل الآية على إباحة المسكر، وهذا أيضا يستطيع القائل بالنسخ إثباته، فان الآية الكريمة في مقام الإخبار عن أمر خارجي ولا دلالة لها على إمضاء ما كان يفعله الناس، وقد ذكرت الآية في سياق إثبات الصانع الحكيم بآياته الافاقية، فقال عز من قائل:
{والله أنزل من السماء ماءً فأحيا به الأرض بعد موتها إن في ذلك لآية لقوم يسمعون 16: 65. وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه من بين فرث
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الناسخ والمنسوخ للنحاس: ص 181.
(2) تفسير البرهان: 1 / 577.


ــ[360]ــ


ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين: 66. ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا إن في ذلك لآية لقوم يعقلون: 67. وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون: 68. ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك ذللا يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون: 69}.
فذكر سبحانه وتعالى أن من آياته أن ينزل الماء من السماء، وأنه يحيي به الأرض بعد موتها. ثم ذكر تدبيره في صنع الحيوان، وأنه يخرج اللبن الخالص من بين فرث ودم. ثم ذكر ما أودعه في ثمرات النخيل والأعناب من الاستعداد لاتخاذ السكر منها والرزق الحسن، وقد امتازت هي من بين الثمار بذلك. ثم ذكر ما يصنعه النحل من الأعمال التي يحار فيها العقلاء العارفون بمزايا صنع العسل ومبادئه، وأن ذلك بوحي الله تعالى وإلهامه. وإذن فليس في الآية دلالة على إباحة شرب المسكر أصلا. على أن في الآية إشعارا - لو سلم إرادة المسكر من لفظ سكرا - بعدم جواز شرب المسكر، فإنها جعلت المسكر مقابلا للرزق الحسن. ومعنى هذا: أن المسكر ليس من الرزق الحسن، فلا يكون مباحا. وتدل على ما ذكرناه الروايات المأثورة عن أهل البيت (عليهم السلام) فإنها دلت على أن الخمر لم تزل محرمة.
روى الشيخ الصدوق بإسناده عن محمد بن مسلم، قال:
"سئل أبو عبدالله (عليه السلام) عن الخمر، فقال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): إن أول ما نهاني عنه ربي عز وجل عبادة الأوثان وشرب الخمر..."(1).
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الوسائل: 25 / 304، باب 9، رقم الحديث: 31965.


ــ[361]ــ


وروي عن الريان عن الرضا (عليه السلام) قال:
"ما بعث الله نبيا إلا بتحريم الخمر"(1).
وقد تقدم في بحث الإعجاز تحريم الخمر في التوراة(2)، ولكن الشيء الذي لا يشك فيه أن الشريعة الإسلامية لم تجهر بحرمة الخمر برهة من الزمن، ثم جهرت بها بعد ذلك، وهذا هو حال الشريعة المقدسة في جميع الأحكام. ومن البين أنه ليس معنى ذلك أن الخمر كان مباحا في الشريعة ثم نسخت حرمته.


*****


30 ـ {الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين}(24 : 3).
فعن سعيد بن المسيب، وأكثر العلماء أن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى:
{وانكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم...} (24 : 32).
فدخلت الزانية في أيامى المسلمين (3).
والحق: أن الآية غير منسوخة، فان النسخ فيها يتوقف على أن يكون المراد من لفظ النكاح هو التزويج، ولا دليل يثبت ذلك. على أن ذلك يستلزم القول بإباحة نكاح المسلم الزاني المشركة، وبإباحة نكاح المشرك المسلمة الزانية، وهذا مناف لظاهر الكتاب العزيز، ولما ثبت من سيرة المسلمين، وإذن فالظاهر أن المراد من النكاح في الآية هو الوطء، والجملة خبرية قصد بها الاهتمام بأمر الزنا. ومعنى
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الوسائل: 5 / 320، باب 11، رقم الحديث: 6670.
(2) تقدم ذلك في ص 58 من هذا الكتاب.
(3) الناسخ والمنسوخ للنحاس: ص 193.


ــ[362]ــ


الآية: أن الزاني لا يزني إلا بزانية، أو بمن هي أخس منها وهي المشركة، وأن الزانية لا تزني إلا بزان، أو بمن هو أخس منه وهو المشرك. وأما المؤمن فهو ممتنع عن ذلك، لأن الزنا محرم، وهو لا يرتكب ما حرم عليه.


*****


31 ـ {قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله} (45: 14).
فذهبت جماعة إلى أن هذه الآية الكريمة منسوخة بآية السيف، وقالوا: إن هذه الآية مكية، وقد نزلت في عمر بن الخطاب حين شتمه رجل من المشركين بمكة قبل الهجرة، فأراد عمر أن يبطش به: فأنزل الله تعالى هذه الآية ثم نسخت بقوله تعالى:
{فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم...} (9 : 5).
واستندوا في ذلك إلى ما رواه عليل بن أحمد، عن محمد بن هشام، عن عاصم بن سليمان، عن جويبر، عن الضحاك، عن ابن عباس(1).
ولكن هذه الرواية ضعيفة جدا، ولا أقل من أن في سندها عاصم بن سليمان وهو كذاب وضاع (2) مع أن الرواية ضعيفة المتن، فان المسلمين ـ قبل الهجرة ـ كانوا ضعفاء ولم يكن عمر مقداما في الحروب، ولم يعد من الشجعان المرهوبين، فكيف يسعه أن يبطش بالمشرك؟!
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الناسخ والمنسوخ للنحاس: ص 218.
(2) قال ابن عدي: "عاصم بن سليمان: يعد ممن يضع الحديث"، وقال أيضا: "عامة أحاديثه مناكير متنا واسنادأ، والضعف على رواياته بين"، وقال الفلاس: "كان يضع الحديث، ما رأيت مثله قط"، وقال ابوحاتم والنسائي: "متروك". وقال الدارقطني: "كذاب"، وقال أيضا في العلل: "كان ضعيفا آية من الآيات في ذلك" وقال ابن حبان: "لا يجوز كتب حديثه إلا تعجبا" وقال أبو داود الطيالسي: "كذاب". وقال الساجي: "متروك يضع الحديث"، وقال الأزدي: "ضعيف مجهول"، لسان الميزان: 3 / 218، 219.


ــ[363]ــ


على أن لفظ الغفران المذكور في الآية يدل على التمكن من الانتقام. ومن المقطوع به أن ذلك لم يكن ميسورا لعمر قبل الهجرة، فلو أراد البطش بالمشرك لبطش به المشرك لا محالة.
والحق: أن الآية المباركة محكمة غير منسوخة، وأن معنى الآية: ان الله أمر المؤمنين بالعفو والاغضاء عما ينالهم من الإيذاء والاهانة في شؤونهم الخاصة ممن لا يرجون أيام الله، ويدل عليه قوله تعالى بعد ذلك:
{ليجزي قوما بما كانوا يكسبون 45 : 14. من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها ثم إلى ربكم ترجعون:15}.
فإن الظاهر منه أن جزاء المسيء الذي لا يرجو أيام الله ولا يخاف المعاد، سواء أكان من المشركين، أم من الكتابيين، أم من المسلمين الذين لا يبالون بدينهم إما هو موكول إلى الله الذي لا يفوته ظلم الظالمين وتفريط المفرطين، فلا ينبغي للمسلم المؤمن بالله أن يبادر إلى الانتقام منه، فإن الله أعظم منه نقمة وأشد أخذا، وهذا الحكم تهذيبي أخلاقي، وهو لا ينافي الأمر بالقتال للدعوة إلى الإسلام أو لأمر آخر، سواء أكان نزول هذه الآية قبل نزول آية السيف أم كان بعده.


*****


32 ـ {فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا اثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فداء} (47 : 4).
فذهبت جماعة إلى أن هذه الآية منسوخة بآية السيف، وذهب آخرون إلى انها


ــ[364]ــ


ناسخة لها(1).
والحق: أنها ليست ناسخة ولا منسوخة، وتحقيق ذلك يحتاج إلى مزيد من البسط في الكلام.
أحكام الكافر المقاتل:
المعروف بين الشيعة الإمامية أن الكافر المقاتل يجب قتله ما لم يسلم، ولا يسقط قتله بالأسر قبل أن يثخن المسلمون الكافرين، ويعجز الكافرون عن القتال لكثرة القتل فيهم، وإذا أسلم ارتفع موضوع القتل، وهو الكافر، وأما الأسر بعد الاثخان فيسقط فيه القتل، فان الآية قد جعلت الاثخان غاية لوجوب ضرب الرقاب.
ومن الواضح: أن الحكم يسقط عند حصول غايته، ويتخير ولي الأمر في تلك الحال بين استرقاق الأسير، وبين مفاداته، والمن عليه من غير فداء، من غير فرق في ذلك بين المشرك وغيره من فرق الكفار، وقد ادعي الإجماع على ما ذكرناه من الأحكام، والمخالف فيها شاذ لا يعبأ بخلافه، "وسيظهر ذلك فيما بعد إن شاء الله تعالى".
وهذا الذي ذكروه يوافق ظاهر الآية الكريمة من جميع الجهات إذا كان شد الوثاق هو الاسترقاق، باعتبار أن معنى شد الوثاق هو عزله عن الاستقلال ما لم يمن عليه أو يفاد. وأما إذا لم يكن شد الوثاق بمعنى الاسترقاق، فلا بد من إضافة الاسترقاق إلى المفاداة والمن للعلم بجوازه من أدلة أخرى، فيكون ذلك تقييدا لإطلاق الآية بالدليل.
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الناسخ والمنسوخ للنحاس: ص 220.


ــ[365]ــ


وقد وردت الأحكام المذكورة فيما رواه الكليني، والشيخ الطوسي بإسنادهما عن طلحة بن زيد عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال:
"سمعته يقول كان أبي يقول أن للحرب حكمين: إذا كانت الحرب قائمة لم تضع أوزارها، ولم يثخن أهلها، فكل أسير أخذ في تلك الحال فان الإمام فيه بالخيار إن شاء ضرب عنقه، وإن شاء قطع يده ورجله من خلاف بغير حسم، وتركه يتشحط في دمه حتى يموت وهو قول الله تعالى:
{إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم}(5 : 33).
ألا ترى أنه التخيير الذي خير الله الإمام على شيء واحد وهو الكفر وليس هو على أشياء مختلفة فقلت لجعفر بن محمد (عليه السلام) قول الله تعالى: {أو ينفوا من الأرض}، قال ذلك الطلب أن يطلبه الخيل حتى يهرب، فإن أخذته الخيل حكم ببعض الأحكام التي وصفت ذلك، والحكم الآخر إذا وضعت الحرب أوزارها وأثخن أهلها، فكل أسير أخذ على تلك الحال وكان في أيديهم فالإمام فيه بالخيار، إن شاء من عليهم فأرسلهم، وإن شاء فاداهم أنفسهم، وإن شاء استعبدهم فصاروا عبيدا"(1).
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الكافي: 5 / 32، الحديث 1، والتهذيب: 6 / 143 باب 22، الحديث: 5. 


ــ[366]ــ


ووافقنا على سقوط القتل عن الأسير بعد الاثخان: الضحاك وعطاء، وصرح الحسن بذلك وان الامام بالخيار إما أن يمن أو يفادي أو يسترق (1).
وعلى ما ذكرناه فلا نسخ في الآية الكريمة، غاية الأمر أن القتل يختص بمورد، ويختص عدم القتل بمورد آخر من غير فرق بين أن تكون آية السيف متقدمة في النزول على هذه الآية، وبين أن تكون متأخرة عنها.
ومن الغريب: أن الشيخ الطوسي - في هذا المقام - نسب إلى أصحابنا أنهم رووا تخيير الإمام في الأسير بعد الإثخان بين القتل وبين ما ذكر من الأمور.
قال: "والذي رواه أصحابنا أن الأسير إن أخذ قبل انقضاء الحرب والقتال - بأن تكون الحرب قائمة، والقتال باق - فالإمام مخير بين أن يقتلهم، أو يقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف ويتركهم حتى ينزفوا، وليس له المن ولا الفداء، وإن كان أخذ بعد وضع الحرب أوزارها وانقضاء الحرب والقتال كان - الإمام - مخيرا بين المن والمفاداة إما بالمال أو النفس، وبين الاسترقاق - وضرب الرقاب - "(2).
وتبعه على ذلك الطبرسي في تفسيره (3) مع أنه لم ترد في ذلك رواية أصلا.
وقد نص الشيخ الطوسي بنفسه في كتاب المبسوط (4). "كل أسير يؤخذ بعد أن تضع الحرب أوزارها، فانه يكون الإمام مخيرا فيه بين أن يمن عليه فيطلقه، وبين أن يسترقه وبين أن يفاديه، وليس له قتله على ما رواه أصحابنا".
وقد ادعى الإجماع والاخبارعلى ذلك: في المسألة السابعة عشرة من كتاب
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) القرطبي: 16 / 227، 228، ونقله النحاس في الناسخ والمنسوخ عن عطاء ص 221.
(2) تفسير التبيان: 9 / 291، طبع النجف الأشرف.
(3) تفسير مجمع البيان: 9 / 126.
(4) المبسوط: 2 / 13، كتاب الجهاد، فصل: أصناف الكفار وكيفية قتالهم.


ــ[367]ــ


 الفيء، وقسمة الغنائم من كتاب الخلاف.
ومن الذين ادعوا الإجماع على ذلك صريحا العلامة في كتابي "المنتهى والتذكرة" في أحكام الاسارى من كتاب الجهاد.
وفي ظني: أن كلمة "ضرب الرقاب" في عبارة "التبيان" إنما كانت من سهو القلم، وقد جرى عليه الطبرسي من غير مراجعة.
هذا هو مذهب علماء الشيعة الإمامية، والضحاك، وعطاء، والحسن.
آراء أخرى حول الآية:
وأما بقية علماء أهل السنة فقد ذهبوا إلى أقوال:
1 ـ منهم من قال: "إن الآية نزلت في المشركين، ثم نسخت بآيات السيف"، نسب ذلك إلى قتادة، والضحاك، والسدي، وابن جريح، وابن عباس، وإلى كثير من الكوفيين، فقالوا: "إن الأسير المشرك يجب قتله، ولا تجوز مفاداته، ولا المن عليه بإطلاقه"(1).
ويرد5:
أنه لا وجه للنسخ على هذا القول، فإن نسبة هذه الآية إلى آيات السيف نسبة المقيد إلى المطلق، سواء أكانت متقدمة عليها في النزول أم كانت متأخرة عنها. وقد أوضحنا ـ فيما سبق ـ أن العام المتأخر لا يكون ناسخا للخاص المتقدم، فكيف بالمطلق إذا سبقه المقيد(2)؟.
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) تفسير القرطبي: 16/ 227.
(2) قد فصلنا الكلام في ذلك في بحث العموم والخصوص من كتابنا " أجود التقريرات". (المؤلف).


ــ[368]ــ


2 ـ ومنهم من قال: "إن الآية نزلت في الكفار جميعا، فنسخت في خصوص المشرك" نسب ذلك إلى قتادة، ومجاهد، والحكم، وهو المشهور من مذهب أبي حنيفة(1).
ويرد5:
أن هذا القول واضح البطلان كالقول السابق، فإن ذلك موقوف على أن تكون آيات السيف متأخرة في النزول عن هذه الآية، ولا يمكن القائل بالنسخ إثبات ذلك، ولا سند له غير التمسك بخبر الواحد، وقد أوضحنا أن خبر الواحد لا يثبت به النسخ إجماعا، ولو فرضنا ثبوت ذلك، فلا دليل على كون آيات السيف ناسخة لها، ليصح القول المذكور، بل تكون هذه الآية مقيدة لآيات السيف، وذلك: لإجماع الأمة على أن هذه الآية قد شملت المشركين أو أنها مختصة بهم، وعلى ذلك كانت الآية المباركة قرينة على تقييد آيات السيف لما أشرنا إليه آنفا من أن المطلق لا يصلح أن يكون ناسخا للمقيد، وإذا أغمضنا عن ذلك كانت هذه الآية الكريمة معارضة لآيات السيف بالعموم من وجه، ومورد الاجتماع هو المشرك الأسير بعد الإثخان، ولا مجال للالتزام بالنسخ فيه.
3 ـ ومنهم من قال: "إن الآية ناسخة لآية السيف"، نسب ذلك إلى الضحاك. وغيره (2).
ويرد5:
أن هذا القول، يتوقف على إثبات تأخر هذه الآية في النزول عن آيات السيف، ولا يمكن هذا القائل إثبات ذلك، على أنا قد أوضحنا - فيما تقدم - أنه لا موجب
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) تفسير القرطبي: 16/ 227.
(2) نفس المصدر.


ــ[369]ــ


للالتزام بالنسخ، تأخرت الآية في النزول عن آيات السيف، أم تقدمت عليها.
4 ـ ومنهم من قال: "إن الإمام مخير في كل حال بين القتل والاسترقاق والمفاداة والمن"، رواه أبوطلحة عن ابن عباس، واختاره كثير، منهم: ابن عمر، والحسن، وعطاء، وهو مذهب مالك، والشافعي، والثوري والأوزاعي وأبي عبيد، وغيرهم. وعلى هذا القول فلا نسخ في الآية(1) قال النحاس بعدما ذكر هذا القول: "وهذا على أن الآيتين محكمتان معمول بهما، وهو قول حسن لأن النسخ إنما يكون بشيء قاطع، فأما إذا أمكن العمل بالآيتين، فلا معنى في القول بالنسخ... وهذا القول يروى عن أهل المدينة، والشافعي، وأبي عبيد"(2).
ويرد5:
ان هذا القول وإن لم يستلزم نسخا في الآية، إلا أنه باطل أيضا، لأن الآية الكريمة صريحة في أن المن والفداء إنما هما بعد الاثخان فالقول بثبوتهما - قبل ذلك - قول بخلاف القرآن، والأمر بالقتل في الآية مغيا بالإثخان فالقول بثبوت القتل بعده قول بخلاف القرآن أيضا، وقد سمعت أن آيات السيف مقيدة بهذه الآية.
وأما ما استدل به على هذا القول من أن النبي (صلى الله عليه وآله) قتل بعض الاسارى وفادى بعضا، ومن على آخرين، فهذه الرواية - على فرض صحتها - لا دلالة لها على التخيير بين القتل وغيره، لجواز أن يكون قتله للأسير قبل الاثخان وفداؤه ومنه في الاسراء بعده، وأما ما روي من فعل أبي بكر وعمر فهو - على تقدير ثبوته - لا حجية فيه، لترفع اليد به عن ظاهر الكتاب العزيز.


                                                                         *****
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) تفسير القرطبي: 16/ 228.
(2) الناسخ والمنسوخ: ص 221.


ــ[370]ــ


33 ـ {وفي أموالهم حق للسائل والمحروم} (51: 19).
34 ـ {والذين في أموالهم حق معلوم 70: 24. للسائل والمحروم: 25}.
فقد وقع الاختلاف في نسخ الآيتين وإحكامهما. ووجه الاختلاف في ذلك: أن الحق المعلوم الذي أمرت الآيتان به قد يكون هو الزكاة المفروضة، وقد يكون فرضا ماليا آخر غيرها، وقد يكون حقا غير الزكاة ولكنه مندوب وليس بمفروض. فإن كان الحق واجبا ماليا غير الزكاة فالآيتان الكريمتان منسوختان لا محالة، من حيث إن الزكاة نسخت كل صدقة واجبة في القرآن وقد اختار هذا الوجه جماعة من العلماء. وإن كان الحق المعلوم هو الزكاة نفسها، أو كان حقا مستحبا غير مفروض، فالآيتان محكمتان بلا ريب.
والتحقيق: يقتضي اختيار الوجه الأخير، وأن الحق المعلوم شيء غير الزكاة، وهو أمر قد ندب إليه الشرع. فقد استفاضت النصوص من الطريقين بأن الصدقة الواجبة منحصرة بالزكاة، وقد ورد عن أهل البيت (عليهم السلام) بيان المراد من هذا الحق المعلوم.
روى الشيخ الكليني بإسناده عن أبي بصير قال:
"كنا عند أبي عبدالله (عليه السلام) ومعنا بعض أصحاب الأموال فذكروا الزكاة فقال أبوعبدالله (عليه السلام): إن الزكاة ليس يحمد بها صاحبها، وإنما هو شيء ظاهر إنما حقن بها دمه وسمي بها مسلما، ولو لم يؤدها لم تقبل صلاته، وإن عليكم في أموالكم غير الزكاة. فقلت: أصلحك الله وما علينا في أموالنا غير الزكاة؟ فقال: سبحان الله! أما تسمع الله يقول في كتابه: والذين في أموالهم…؟ قال: قلت: فماذا الحق


ــ[371]ــ


المعلوم الذي علينا؟ قال: هو والله الشيء يعلمه الرجل في ماله يعطيه في اليوم، أو في الجمعة، أو الشهر قل أو كثر غير أنه يدوم عليه"(1).
وروى أيضا بإسناده، عن إسماعيل بن جابر، عن أبي عبدالله (عليه السلام):
"في قول الله تعالى: {والذين في أموالهم...} أهو سوى الزكاة؟ فقال: هو الرجل يؤتيه الله الثروة من المال فيخرج منه الألف، والألفين، والثلاثة الاف، والأقل والأكثر فيصل به رحمه، ويحتمل به الكل عن قومه"(2).
وغير ذلك من الروايات عن الصادقين (عليهما السلام) (3).
وروى البيهقي في شعب الإيمان، بإسناده، عن غزوان بن أبي حاتم قال:
"بينا أبوذر عند باب عثمان لم يؤذن له إذ مر به رجل من قريش قال: يا أباذر ما يجلسك ههنا؟ فقال: يأبى هؤلاء أن يأذنوا لي، فدخل الرجل فقال: يا أميرالمؤمنين ما بال أبي ذر على الباب لا يؤذن له؟ فأمر فأذن له فجاء حتى جلس ناحية القوم.. فقال عثمان لكعب: يا أبا إسحق أرأيت المال إذا أدي زكاته هل يخشى على صاحبه فيه تبعة؟ قال: لا، فقام أبوذر ومعه عصا فضرب بها بين أذني كعب، ثم قال: يا ابن اليهودية، أنت تزعم أنه ليس حق في ماله إذا أدى الزكاة. والله تعالى يقول: {ويؤثرون على أنفسهم
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الكافي: 3 / 499، ا لحديث: 9.
(2) نفس المصدر: الحديث: 10.
(3) الكافي: 3 / 498 ـ .. 5، الحديث: 8، 9، 10 ، 11.


ــ[372]ــ


ولو كان بهم خصاصة}، (59: 9). الله تعالى يقول: {ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا} (76: 8). والله تعالى يقول: {والذين في أموالهم حق معلوم 7: 74. للسائل والمحروم:75}.
فجعل يذكر نحو هذا من القرآن..."(1).
وروى ابن جرير بإسناده عن ابن عباس:
"أن الحق المعلوم سوى الصدقة يصل بها رحما، أو يقري بها ضيفا أو يحمل بها كلاً، أو يعين بها محروما"(2).
وتبع ابن عباس على ذلك جملة من المفسرين، وعلى هذا فلا نسخ في الآية المباركة.


*****


35 ـ {يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة ذلك خير لكم وأطهر فإن لم تجدوا فإن الله غفور رحيم} (58: 12).
فقد ذهب أكثر العلماء إلى نسخها بقوله تعالى:
{ءأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات فإذ لم تفعلوا وتاب الله عليكم فأقيموا الصلوة وآتوا الزكوة وأطيعوا الله ورسوله والله خبير بما تعملون} (58: 13).
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) كنز العمال: 3 / 310.
(2) تفسير القرطبي: 29 / 50.


ــ[373]ــ


فقد استفاضت الروايات من الطريقين: أن الآية المباركة لما نزلت لم يعمل بها غير علي (عليه السلام) فكان له دينار فباعه بعشرة دراهم، فكان كلما ناجى الرسول (صلى الله عليه وآله) قدم درهما حتى ناجاه عشر مرات.
أحاديث العمل بآية النجوى:
روى ابن بابويه بإسناده عن مكحول قال:
"قال أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام): لقد علم المستحفظون من أصحاب النبي محمد (صلى الله عليه وآله) أنه ليس فيهم رجل له منقبة إلا قد شركته فيها وفضلته، ولي سبعون منقبة لم يشركني أحد منهم، قلت: يا أميرالمؤمنين فأخبرني بهن، فقال (عليه السلام): وإن أول منقبة ـ وذكر السبعين ـ وقال في ذلك: وأما الرابعة والعشرين فان الله عزوجل أنزل على رسوله: {اذا ناجيتم} فكان لي دينار فبعته بعشرة دراهم، فكنت إذا ناجيت رسول الله أتصدق قبل ذلك بدرهم، والله ما فعل هذا أحد غيري من أصحابه قبلي ولا بعدي فأنزل الله عزوجل: {أءاشفقتم…} (1).
وروى ابن جرير بإسناده عن مجاهد قال:
"قال علي (رضي الله عنه): آية من كتاب الله لم يعمل بها أحد قبلي ولا يعمل بها أحد بعدي، كان عندي دينار فصرفته بعشرة
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) بحار الأنوار: 17 / 29، باب 14، رقم الحديث: 6. راجع تفسير البرهان: 2 / 1099.


ــ[374]ــ


دراهم، فكنت إذا جئت إلى النبي(صلى الله عليه وآله) تصدقت بدرهم، فنسخت فلم يعمل بها أحد قبلي: إذا ناجيتم"(1).
قال الشوكاني: وأخرج عبدالرزاق، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي خاتم، وابن مردويه عنه - علي بن أبي طالب - قال:
"ما عمل بها أحد غيري حتى نسخت، وما كانت إلا ساعة يعني آية النجوى".
وأخرج سعيد بن منصور، وابن راهويه، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، وابن مردويه عنه أيضا قال:
"إن في كتاب الله لآية ما عمل بها أحد قبلي ولا يعمل بها أحد بعدي آية النجوى: {إذا ناجيتم...} كان عندي دينار فبعته بعشرة دراهم، فكنت كلما ناجيت رسول الله (صلى الله عليه وآله) قدمت بين يدي نجواي درهما، ثم نسخت فلم يعمل بها أحد، فنزلت: {ءأشفقتم...}(2).
وتحقيق القول في ذلك:
أن الآية المباركة دلت على أن تقديم الصدقة بين يدي مناجاة الرسول (صلى الله عليه وآله) خير، وتطهير للنفوس، والأمر به أمر بما فيه مصلحة العباد. ودلت على أن هذا الحكم إنما يتوجه على من يجد ما يتصدق به، أما من لا يجد شيئا فإن الله غفور رحيم.
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) تفسير الطبري: 28 / 15.
(2) فتح القدير: 5 / 186 والروايات في هذا المقام كثيرة فليراجع تفسير البرهان وتفسير الطبري وكتب الروايات. وقد تعرض لنقل جملة منها شيخنا المجلسي في بحار الأنوار: 17 / 29، باب 14، الحديث 6 و35 / 378، باب 18 رقم الحديث 3، و41 / 26، باب 102، الحديث 1.


ــ[375]ــ


ولا ريب في أن ذلك مما يستقل العقل بحسنه ويحكم الوجدان بصحته فان في الحكم المذكور نفعا للفقراء، لأنهم المستحقون للصدقات، وفيه تخفيف عن النبي (صلى الله عليه وآله) فانه يوجب قلة مناجاته من الناس، وأنه لا يقدم على مناجاته - بعد هذا الحكم - إلا من كان حبه لمناجاة الرسول أكثر من حبه للمال.
ولا ريب أيضا في أن حسن ذلك لا يختص بوقت دون وقت. ودلت الآية الثانية على أن عامة المسلمين ـ غير علي بن أبي طالب (عليه السلام) ـ أعرضوا عن مناجاة الرسول(صلى الله عليه وآله) إشفاقا من الصدقة، وحرصا على المال.
سبب نسخ صدقة النجوى:
ولا ريب في أن إعراضهم عن المناجاة يفوت عليهم كثيرا من المنافع والمصالح العامة. ومن أجل حفظ تلك المنافع رفع الله عنهم وجوب الصدقة بين يدي المناجاة تقديما للمصلحة العامة على المصلحة الخاصة، وعلى النفع الخاص بالفقراء، وأمرهم بإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وإطاعة الله ورسوله.
وعلى ذلك فلا مناص من الالتزام بالنسخ، وأن الحكم المجعول بالآية الأولى قد نسخ وارتفع بالآية الثانية. ويكون هذا من القسم الأول من نسخ الكتاب - أعني ما كانت الآية الناسخة ناظرة إلى انتهاء أمد الحكم المذكور في الآية المنسوخة - ومع ذلك فنسخ الحكم المذكور في الآية الأولى ليس من جهة اختصاص المصلحة التي اقتضت جعله بزمان دون زمان إذ قد عرفت أنها عامة لجميع أزمنة حياة الرسول (صلى الله عليه وآله) إلا أن حرص الأمة على المال، وإشفاقها من تقديم الصدقة بين يدي المناجاة كان مانعا من استمرار الحكم المذكور ودوامه، فنسخ الوجوب وأبدل الحكم بالترخيص.


ــ[376]ــ


وقد يعترض:
أنه كيف جعل الله الحكم المذكور "وجوب التصدق بين يدي النجوى" مع علمه منذ الأزل بوقوع المانع!
والجواب:
ان في جعل هذا الحكم ثم نسخه - كما فعله الله سبحانه - تنبيها للامة، وإتماما للحجة عليهم. فقد ظهر لهم ولغيرهم بذلك أن الصحابة كلهم آثروا المال على مناجاة الرسول الأكرم، ولم يعمل بالحكم غير أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام).
وترك المناجاة وإن لم يكن معصية لله سبحانه، لأن المناجاة بنفسها لم تكن واجبة، ووجوب الصدقة كان مشروطا بالنجوى، فإذا لم تحصل النجوى فلا وجوب للصدقة ولا معصية في ترك المناجاة، إلا أنه يدل على أن من ترك المناجاة يهتم بالمال أكثر من اهتمامه بها.
حكمة تشريع صدقة النجوى:
وفي نسخ هذا الحكم بعد وضعه ظهرت حكمة التشريع، وانكشفت منة الله على عباده وبان عدم اهتمام المسلمين بمناجاة النبي الأكرم، وعرف مقام أميرالمؤمنين (عليه السلام) من بينهم. وهذا الذي ذكرناه يقتضيه ظاهر الكتاب، وتدل عليه أكثر الروايات. وأما إذا كان الأمر بتقديم الصدقة بين يدي النجوى أمرا صوريا امتحانيا - كأمر إبراهيم بذبح ولده - فالآية الثانية لا تكون ناسخة للآية الأولى نسخا اصطلاحيا، بل يصدق على رفع ذلك الحكم الامتحاني: النسخ بالمعنى اللغوي:
ونقل الرازي عن أبي مسلم: أنه جزم بكون الأمر امتحانيا، لتمييز من آمن إيمانا


ــ[377]ــ


حقيقيا عمن بقي على نفاقه فلا نسخ. وقال الرازي: "وهذا الكلام حسن ما به بأس" (1).
وقال الشيخ شرف الدين: إن محمد بن العباس ذكر في تفسيره سبعين حديثا من طريق الخاصة والعامة تتضمن أن المناجي للرسول هو أمير المؤمنين (عليه السلام) دون الناس أجمعين... ونقلت من مؤلف شيخنا أبي جعفر الطوسي هذا الحديث ذكره أنه في جامع الترمذي، وتفسير الثعلبي باسناده عن علقمة الأنماوي يرفعه إلى علي (عليه السلام) أنه قال:
"بي خفف الله عن هذه الأمة لأن الله امتحن الصحابة، فتقاعسوا عن مناجاة الرسول، وكان قد احتجب في منزله من مناجاة كل أحد إلا من تصدق بصدقة، وكان معي دينار، فتصدقت به، فكنت أنا سبب التوبة من الله على المسلمين حين عملت بالآية، ولو لم يعمل بها أحد لنزل العذاب، لامتناع الكل من العمل بها"(2).
أقول: إن هذه الرواية لا وجود لها في النسخة المطبوعة من جامع الترمذي ولم أظفر بشيء من نسخه القديمة المخطوطة، ولم أظفر أيضا بتفسير الثعلبي الذي نقل عنه في جملة من المؤلفات، ولا أعلم بوجوده في مكان. وكيف كان فلا ريب في أن الحكم المذكور لم يبق إلا زمنا يسيرا ثم ارتفع، ولم يعمل به أحد غير أميرالمؤمنين (عليه السلام) وبذلك ظهر فضله، سواء أكان الأمر حقيقيا أم كان امتحانيا.
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) تفسير الرازي: 8 / 167 طبع المطبعة العامرة.
(2) بحار الأنوار: 35 / 381، باب 18، رقم الحديث: 8 و41 / 26، باب 102، الحديث: 1. وتفسير البرهان 2/ 1100.


ــ[378]ــ


تعصب مكشوف:
اعتذر الرازي عن ترك شيوخ الصحابة العمل بالآية المباركة، إذا كانوا قد وجدوا الوقت لذلك ولم يفعلوا، فقال ما نصه:
"وذلك الاقدام على هذا العمل مما يضيق قلب الفقير، فإنه لا يقدر على مثله فيضيق قلبه، ويوحش قلب الغني، فانه لما لم يفعل الغني ذلك وفعله غيره صار ذلك الفعل سببا للطعن في من لم يفعل، فهذا الفعل لما كان سببا لحزن الفقراء ووحشة الأغنياء لم يكن في تركه كبير مضرة، لأن الذي يكون سببا للالفة أولى مما يكون سببا للوحشة، وأيضا فهذه المناجاة ليست من الواجبات، ولا من الطاعات المندوبة، بل قد بينا أنهم إنما كانوا كلفوا بهذه الصدقة ليتركوا هذه المناجاة، لوما كان الأولى بهذه المناجاة أن تكون متروكة لم يكن تركها سببا للطعن"(1).
تعقيب:
أقول: هذا عذره، وأنت تجد أنه تشكيك لا ينبغي صدوره ممن له أدنى معرفة بمعاني الكلم، هب ان في هذا المقام لم ترد فيه رواية أصلا، أفلا يظهر من قوله تعالى: {ءأشفقتم...} أنه عتاب على ترك المناجاة خوفا من الفقر أو حرصا على المال؟ وأن الله تعالى قد تاب عليهم عن هذا التقصير، إلا أن التعصب داء عضال، ومن الغريب أنه ذكر هذا، وقد اعترف قبيل ذلك بأن من فوائد هذا التكليف أن يتميز به محب الآخرة من محب الدنيا، فان المال محك الدواعي!!.
وأما ان الفعل المذكور يكون سببا لحزن الفقراء، ووحشة الأغنياء فيكون تركه الموجب للالفة أولى، أما هذا الذي ذكره فلو صح لكان ترك جميع الواجبات المالية
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) تفسير الرازي: 8 / 167.


ــ[379]ــ


أولى من فعلها، ولكان أمره تعالى بالفعل أمرا بما يحكم العقل بأولوية تركه، وليس ببعيد أن يلتزم الرازي بهذا، وبما هو أدهى منه لينكر فضيلة من فضائل علي (عليه السلام).
ومن المناسب ـ هنا ـ أن أنقل كلاما لنظام الدين النيسابوري، قال ما نصه: قال القاضي:
"هذا - تصدق علي بين يدي النجوى - لا يدل على فضله على أكابر الصحابة، لأن الوقت لعله لم يتسع للعمل بهذا الفرض، وقد قال فخر الدين الرازي: سلمنا أن الوقت قد وسع إلا أن الإقدام على هذا العمل مما يضيق قلب الفقير الذي لا يجد شيئا، وينفر الرجل الغني، ولم يكن في تركه مضرة، لأن الذي يكون سببا للالفة أولى مما يكون سببا للوحشة، وأيضا الصدقة عند المناجاة واجبة، أما المناجاة فليست بواجبة ولا مندوبة، بل الأولى ترك المناجاة، لما بينا من أنها كانت سببا لسآمة النبي (صلى الله عليه وآله).
قلت: هذا الكلام لا يخلو عن تعصب ما، ومن أين يلزمنا أن نثبت مفضولية علي (رضي الله عنه) في كل خصلة؟ ولم لا يجوز أن يحصل له فضيلة لم توجد لغيره من أكابر الصحابة؟!.
فقد روي عن ابن عمر:
كان لعلي (رضي الله عنه) ثلاث لو كانت لي واحدة منهن كانت أحب إلي من حمر النعم: تزويجه فاطمة (رضي الله عنها)، وإعطاوه الراية يوم خيبر، وآية النجوى، وهل يقول منصف: إن مناجاة النبي (صلى الله عليه وآله) نقيصة، على أنه لم يرد في الآية نهي عن المناجاة، وإنما ورد تقديم الصدقة على المناجاة فمن عمل بالآية حصل له الفضيلة من جهتين: سد خلة بعض الفقراء، ومن جهة محبة نجوى الرسول (صلى الله عليه وآله) ففيها القرب


ــ[380]ــ


منه، وحل المسائل العويصة، وإظهار أن نجواه أحب إلى المناجي من المال(1).


*****


36 ـ {ما افاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي آلقربى واليتامى والمساكين وابن السبيل}(59: 8).
فقد نقل عن قتادة أنها منسوخة، وأنه قال: الفيء والغنيمة واحد وكان في بدو الإسلام تقسيم الغنيمة على هذه الأصناف، ولا يكون لمن قاتل عليها شيء إلا أن يكون من هذه الأصناف. ثم نسخ الله ذلك في سورة الأنفال فجعل لهؤلاء الخمس، وجعل الأربعة الأخماس لمن حارب قال الله تعالى(2).
{واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه}(8 : 41).
وقد رفض المحققون هذا القول، وقالوا: إن ما يغنمه المسلمون في الحرب يغاير موضوعا ما أفاء الله على رسوله بغير قتال، فلا تنافي بين الآيتين لتنسخ إحداهما الأخرى.
أقول: إن ما ذكره المحققون بين لا ينبغي الجدال فيه، ويؤكده أنه لم ينقل من سيرة النبي (صلى الله عليه وآله) أن يخص بالغنائم نفسه وقرابته دون المجاهدين. ومما يبطل النسخ ما قيل من أن سورة الأنفال نزلت قبل نزول سورة الحشر(3) ولا أدنى من الشك في ذلك، ومما لا ريب فيه أن الناسخ لا بد من تأخره عن المنسوخ.
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) تفسير النيسابوري بهامش تفسير الطبري: 28 / 24.
(2) الناسخ والمنسوخ للنحاس: ص 231.
(3) تفسير القرطبي: 18 / 14.